رمضان . . بداية السنة الإيمانية
بقلم: طارق أحمد مصطفى
فى المنشآت العامة والخاصة هناك ما يعرف بالسنة المالية، وهى الفترة الزمنية التى يتم خلالها تنفيذ الأعمال المالية التى أقرتها الخطة السنوية لهذه المنشأة وبناء عليها يتم محاسبة الإدارة على نتائج الأعمال وفقاً لما كان مستهدفاً فى الخطة، وهذه الفترة تكون غالباً 12 شهر كالسنة العادية.
وفى الغالب فإن الشهر الأول من السنة المالية يتم فيه تحديد المهام المكلفة بها كل إدارة من إدارات هذه المنشأة، وكذلك توزيع المخصصات المالية التى سيتم الإنفاق منها على هذه المهام المطلوبة. والشهر الأخير من السنة المالية هو الشهر الذى يتم خلاله إعداد الميزانية الختامية وعرضها على مجلس الإدارة، وهذه الميزانية يكون أول سطر فيها هو “رصيد أول المدة” و آخر سطر فيها هو “رصيد آخر المدة” ويكون الفرق بين الرصيدين هو الربح أو الخسارة التى تحققت .
هكذا يدير البشر مصالحهم الدنيوية . . فما بالنا بإدارة الله تعالى لهذا الكون . . كيف لا ينظمه ويضبطه ويضبط أداء عباده وأعمالهم فيه بضوابط الزمن، حتى إذا أتى يوم الحساب ((هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ … )) (يونس/30)
وقد جاء فى سورة التوبة (آية 36) قول الله تعالى: ((إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ…)) أى أن الله تبارك وتعالى قد قسم بعلمه وحكمته تتابع الأيام والشهور بهذا النظام المنضبط المرتبط بحركة دوران الأرض حتى لا يكون عمر الإنسان كله وحدة زمنية واحدة ضخمة ، ولكنه تعالى قسم عمر الإنسان إلى سنوات يحاسب فى كل سنة منها على ما عمل فيها من أعمال إيمانية، من شكر وصبر وصدق وأمانة ومجاهدة وعطاء، ومن الطبيعى أن ما حصله المرء من رصيد من الإيمان والتقوى فى قلبه فى السنة الفائتة سيكون هو “رصيد أول المدة” فى السنة الجديدة، وكلما كان هذا الرصيد كبيراً كلما كان أداء هذه الأعمال أيسر والنجاح فيها أوفر.
وقد أخبرنا النبى صلى الله عليه وسلم أن شهر شعبان هو الشهر الذى ترفع فيه الأعمال إلى الله تبارك وتعالى ، وهذا يعطينا دليل على أن شهر شعبان هو شهر الحساب الختامى للسنة الإيمانية، شهر الميزانية الإيمانية، الشهر الذى يقيم الله تعالى نتائج أعمال عباده فى سنة كاملة، ومن ثم يمنح المكافآت للفائزين .
لذلك فقد أخبرنا النبى صلى الله عليه وسلم أيضاً أن الله تبارك وتعالى يطّلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلاَّ لمشرك أو مشاحن. أى أنه سبحانه يغفر فى شهر شعبان وبالتحديد فى ليلة النصف منه لكل الناس إلا للذى انتهى العام ولازال لديه خلل كبير فى عقيدته (المشرك) أو خلل كبير فى علاقاته الاجتماعية (المشاحن).
ومن هنا أصبح واضحاً أن شهر رمضان هو بداية لسنة إيمانية جديدة، توزع فيه المخصصات على قلوب المؤمنين، حيث يبدأها المؤمن برصيد جديد من التقوى ينبغى أن يستعين به على كل ما سيواجهه خلال العام من مهام وأعمال إيمانية، والتى يمثل أداءه لها اختباراً لما فى قلبه من تقوى، وهنا تتجلى رحمة الله تعالى بعباده، فإنه لم يتركهم لرصيدهم الذى أنهوا به السنة الماضية، ولكنه فتح لهم خزائن رحمته ليملأوا أرصدتهم من التقوى بقدر ما يستطيعون.
ففى رمضان تكون الأعمال الصالحة ميسرة غاية التيسير بحيث لا يتركها إلا محروم، والحسنات فى رمضان تتضاعف إلى ما لا نهاية، فمن أدى فيه نافلة كان كمن أدى فريضة، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وفيه تكبل الشياطين حتى لا تعيق المؤمن عن الاغتراف من الحسنات والاستزادة من التقوى، وفيه تغفر ذنوب سنة ماضية وسنة باقية ، وفى ليلة القدر خير من ألف شهر، وفيه تعتق الرقاب من النار حتى لا يبدأ المؤمن عامه الجديد مكبلاً بالديون الإيمانية بعد أن استهلك خلال العام الماضى كل رصيده من التقوى وبدأ السحب على المكشوف.
نعم، رمضان هو بداية السنة الإيمانية ، تلك البداية التى يمكن للمؤمن إذا أراد أن يجعلها بداية شديدة القوة، وأن يأخذ منها قوة دفع جبارة لمقاومة عوامل الإغراء والفتور التى تصيب العبد المؤمن على مدار السنة، ولعلنا الآن قد استوعبنا لماذا أمن النبى صلى الله عليه وسلم على دعاء سيدنا جبريل “رغم أنف امرء أدرك رمضان ولم يغفر له” ، نسأل الله تعالى ألا نكون من هؤلاء، وأن يجعلنا من أهل العفو والعتق والقبول.
Categories: كلمة و مقال