قراءة في عظمة التجربة الصينية
اقتصاد فاق التوقعات و أعاد ترتيب القوى العالمية !!!
بقلم دكتورة: عيده محمد أحمد
في هذه المقالة وعدد من المقالات التالية سوف نقوم بإلقاء الضوء علي جوانب التجربة الصينية الفريدة من كافة أبعادها ، لنضع أيدي القارئ على بواعث الانطلاق التي مهدت لهذا التنين العظيم الذي أدهش العالم بعظمته و تقدمه المنطلق للأمام بسرعة تتجاوز كل سرعات الأمم الأخرى- و لماذا تميزت هذه النهضة عن مثيلاتها بالثبات والاستقرار و المداومة عبر الأجيال المتلاحقة و ضمان بقائها و نموها الدائم في المستقبل ؟؟
و سوف نبدأ بإلقاء الضوء على التجربة الاقتصادية للصين ، لأن هذا البعد الذي يشكل عصب المعجزة الصينية، التي نقلت الصين من دولة غارقة في الفقر المتولد من أتون الحرب الأهلية في النصف الأول من القرن العشرين، والاستعمار الذي نشب مخالبه في جسد الصين منذ منتصف القرن التاسع عشر، إلى دولة عصرية تقود الاقتصاد العالمي في بداية القرن الحادي والعشرين، في تحول رائع لحالة المجتمع الصيني، في تجربة أدهشت وأبهرت العالم كله.
و يؤكد التاريخ أن التقدم الاقتصادي الصيني الراهن ليس بمفاجأة، بل كان شيئاً متوقعاً بناءً على معطيات متعددة، من ثراء جغرافي، وحضاري، وتاريخي، وثقافي. ومن النبوءات الملفتة للنظر حقاً ما ورد في كتاب البروفسير الأمريكي جاكوس ريدواي “الجغرافيا الاقتصادية” الذي كتبه عام 1903 وصدر عام 1907، حينما قال الكاتب “إن ثروات الصين الطبيعية عظيمة جداً، ولو تمت إدارتها بكفاءة ستجعل من الصين أكبر طاقة إنتاجية وأقوى دولة في العالم” هذه النبوءة الأمريكية حول مستقبل الصين الاقتصادي، التي تعود إلى مطلع القرن العشرين لا بد أن نربطها بنبوءة أمريكية أخرى، تناولها بحث قدمه الخبيران الاقتصاديان الأمريكيان “واين موريسون “و”ميتشيل مارتين” إلى الكونجرس الأمريكي عام 2008، وجاء فيه “إن النمو الاقتصادي السريع للصين منذ 1978 جعل منها قوة اقتصادية رئيسية، وفي السنوات القليلة الماضية أكد الكثير من المحللين أن الصين ستتجاوز عن قريب الولايات المتحدة الأمريكية لتكون القوة الاقتصادية العظمى الأولى، خاصة أن البنك الدولي أصدر تقريرا عام 2005 جاء فيه أن القدرة الشرائية الصينية بلغت 40% من القدرة العالمية، وإن كانت تقديرات البنك الدولي تلك دقيقة فإن الصين سوف تبلغ نفس مستوى الولايات المتحدة الأمريكية خلال سنوات قليلة، مما سيلقي بظلاله على الولايات المتحدة الأمريكية” وبالفعل؛ الصين تجاوزت اليابان في عام 2010، لتصبح ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، و يتضح هذا جلياً من تغير ترتيب الصين في تقرير التنمية البشرية و انتقالها من مجموعة التنمية البشرية المنخفضة عام 1990 إلى مجموعة التنمية البشرية المرتفعة بحلول عام 2013 كذلك في عام 2014 و عام 2015 ظلت الصين في التقدم في مجموعة التنمية البشرية المرتفعة ، والصين الآن على الطريق للوصول إلى نفس درجة الاقتصاد الأمريكي، بل وتجاوزه أيضاً كما يتوقع كثير من علماء الاقتصاد في العالم ، و الذي يقوم بالنظر بتأني لمسيرة الاقتصادية للصين يلمح أسباب تميزها و تقدمها و التي تتضح في النقاط التالية :
– إن سرعة النمو الاقتصادي الصيني فاقت كل أسقف التوقعات الاقتصادية البشرية، ووصلت إلى درجات خيالية؛ ففي عام 1980 كان نصيب الصين 2% من إجمالي الناتج العالمي، وارتفع إلى 7,6% عام 2001، ويتوقع الخبراء الاقتصاديون أن يصل إلى 16,9% عام 2015، كما أن صادرات الصين ترتفع بشكل مذهل، فقد كانت 249 مليار دولار عام 2000 وارتفعت إلى 585 مليار دولار في 2004، وقفزت في 2010 إلى 1274 مليار دولار
– إن التقدم الاقتصادي لا يصنع الأموال فقط، ولكنه يبني الإنسان أيضا، وهذا ما فطنت إليه قيادات الحزب الشيوعي الصيني، فالصعود الاقتصادي لا بد أن يدعمه نظام تعليمي قوي، وبحث علمي متواصل ومستمر، وهو ما حدث في الصين، كما أن المال المتحقق من الصعود الاقتصادي لا بد له من قوة عسكرية تحميه، وهو ما حققته الصين أيضاً، وبذلك يكتمل مثلث النهضة الصينية متألفًا من ثلاثة أضلاع متينة هي العلم والثروة والقوة.
– اتبعت الصين سياسة جذب الاستثمارات الأجنبية، مما أسهم في دخول عدد كبير من الشركات متعددة الجنسيات، التي وجدت الصين سوقًا تحقق لها “تخفيض التكاليف، مع نمو مستمر في العائد”، وكمثال على ذلك، قامت الشركات الأمريكية العاملة في الصين بضخ سبعين مليار دولار في اقتصاد الصين عام 2005.
– المدن الساحلية التي حددتها الصين كمناطق اقتصادية منفتحة على العالم عام 1992 لم تعد تكفي الصين، فتم توسيع المساحات لتشمل كل مقاطعات الصين ومناطق الحكم الذاتي، لتصبح كل مدن الصين مدناً منفتحة على العالم، وبها عشرات الآلاف من المناطق الصناعية، وقامت الحكومة الصينية بإنشاء 15 منطقة حرة لتسهيل التداول التجاري بينها وبين الدول المختلفة .
– تطورت الصناعة الصينية بسلاسة وبساطة شديدة؛ فقد بدأت بالمصانع الصغيرة، فالمتوسطة، فالكبيرة، وكان الصينيون يقولون دائماً “إننا مثل التلميذ في الامتحان من الأفضل أن يبدأ بإجابة الأسئلة السهلة ثم ينتقل للأصعب فالأصعب، بدلاً من أن يبدأ بالأسئلة الصعبة فيتعثر فيها ويضيع وقته ويسلم ورقة إجابة الامتحان فارغة” .
– تختلف نظرة الصين الاقتصادية للتنافس الاقتصادي، فهي تحرص على عدم انهيار أي اقتصاد لدولة مجاورة لها، حتى أنها قدمت مساعدات مالية ضخمة لتايلاند وكوريا الجنوبية وإندونيسيا لتمنع سقوطها بعد الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت آسيا في 1997 و1998؛ فسقوط الدول المجاورة والقريبة سينتج عنه فراغ اقتصادي سيؤثر بشكل كبير على صادرات الصين، خاصة أن كل هذه الدول هي زبائن للصين.
– إن الصين من دول العالم الثالث القليلة جداً التي انعكس تقدمها الاقتصادي على أحوال مواطنيها، فازدهرت أحوال المواطنين الصينيين، فالكل يعمل، حتى الطلاب يعملون في الفنادق والمطاعم وردية مسائية، والمسنات يعملن في المنازل ويسلمن الإنتاج للمصانع كل أسبوع ، كما أنه لا يوجد متسولون في الصين، ليس فقط بسبب قسوة القانون الذي يجرم التسول، بل لأن الدولة تنشئ دوراً لرعاية المعوقين العاجزين عن العمل وكبار السن وملاجئ للأيتام.
– لا يذهب الصينيون للتوقيع على اتفاقيات من أجل البروتوكول الدولي أو المجاملة أو لمجرد التواجد على الساحة الدولية، فلا توقع الصين إلا على اتفاقيات مفيدة لها فقط، وهذا ما نلاحظه من انضمام الصين للتجمع الاقتصادي لدول شرق آسيا وجنوبها، والمعروف باسم “آسيان” بعد حضورها لأول مرة في مؤتمر 1991 ولم تنضم في هذا الوقت بل تريثت إلى 1994 لتصبح عضواً إقليمياً ثم عضوا مناقشا عام 1997 بعد أن تبين لها فوائد الانضمام لهذا التجمع، وبالفعل قامت الصين بتحويل هذه الدول أعضاء الآسيان إلى أسواق لمنتجاتها ؛ فقد ارتفعت صادراتها إلى هذه الدول من نصف مليار دولار عام 1980 إلى 105,9 مليارا عام 2004 لتقفز إلى 135,4 مليارا في العام التالي، ولا سيما أن دول الآسيان بها أعداد كبيرة من السكان ذوي الاستهلاك المتزايد، كما أنها وقعت اتفاقية منطقة تجارة حرة عام 2010 لتتداول البضائع فيما بينها بدون أي رسوم جمركية نهائياً، مما سيزيد صادرات الصين لها بشكل متضاعف.
– يتبين من خلال إحصاءات منظمة التجارة العالمية السلوك الاستهلاكي المتزامن مع السلوك التجاري للصين، فصادرات الصين من المواد الغذائية ارتفعت من 6,4% إلى 10,3% بين عامي 2002 و2007، ولكن وارداتها من المنتجات تامة الصنع ارتفعت من 15,1% إلى 24,3%، والمنتجات الوسيطة من 8,8% إلى 13,9% عن نفس المدة ويكشف هذا السلوك الاستهلاكي المتزايد للصينيين حقيقة هامة، هي ارتفاع مستوى المعيشة.
– يلاحظ أن المنافسة التجارية الشرسة بين التجار والمصنعين داخل الصين أو بين الصينيين والأجانب خارج الصين لم تؤثر على الطبيعة المسالمة للشخصية الصينية، فما زالت الشخصية الصينية مسالمة لأقصى درجة، وما زال المواطن الصيني يتبنى الحكمة الصينية الكونفوشية القديمة التي تقول: إن الإنسان المهذب يتجنب وضع قدمه حتى على ظل جاره.
– حاولت منظمة التجارة العالمية إقناع الصين بالتوقيع على اتفاقية الـ “تربس”، وهي اتفاقية حفظ حق الملكية الفكرية للصناعات والاختراعات ودفع استحقاقات مقابل الانتفاع بها أو التصنيع على غرارها، ولكن الصين رفضت بشدة، وتساءل رئيسها السابق چيانج زيمين قائلاً: ومن سيدفع لنا حقوق ملكيتنا الفكرية للعلوم والاختراعات التي أنتجناها عبر آلاف السنين من تاريخنا الطويل؟ ومن سيدفع للمصريين الذين ظهرت علومهم أيضا منذ آلاف السنين؟
وأرى أن له كل الحق فيما يقول – ، بينما لا يحق للغرب أن يتقاضى ثمن إنتاج المرحلة الأخيرة من العلم التراكمي، الذي أنتجت حضارات أخرى كل مراحله السابقة، وأرى أيضا أنه لا يوجد وجه للمقارنة بين تاريخ الصناعة الأوروبية أو الأمريكية وبين تاريخ الصناعة في الصين، وهناك مثال على ذلك من واقع كتب التاريخ، التي تؤكد ازدهار صناعة الحرير في الصين منذ أربعة آلاف عام قبل الميلاد، وكيف أن الأمم الأخرى سرقت هذه الصناعة التي ظلت الصين محتفظة بأسرارها قرابة 4000 سنة قبل أن تتم سرقة أسرارها عام 140 ق.م. وبدأ الأمر بالهند، ثم كوريا واليابان، ثم فارس، ثم سوريا في التاريخ القديم، ثم أوروبا في التاريخ الحديث؛ فمن دفع من هؤلاء للصين حق الملكية الفكرية؟ ومن دفع للصين حق الملكية الفكرية لأهم أربعة اختراعات في التاريخ قدمتها الصين للبشرية، وهي الورق، والطباعة، والبوصلة، والبارود؟ والإجابة هي بالطبع : لم يدفع أحد!
إلا أنه رغم هذا التقدم المذهل يحذر الخبير الاقتصادي( دوايت بيركنز) الصين وفيتنام وهما أكثر القوى الاقتصادية في العالم نمواً الآن من الاستمرار في فرض القيود الحكومية على الاقتصاد ، ويرى أن الدولتين إن لم تلتزمان بقواعد اللعبة الاقتصادية فسوف تصيبهما وعكة اقتصادية مؤكدة، مثل تلك التي أصابت كوريا واليابان وتايوان في حقبة الستينيات ،ولكن حكومة الصين دائماً ما تتجاهل هذه التحذيرات، وتصر على الإشراف التام على مجريات العمل الاقتصادي في البلاد بأكملها، بما فيها القطاع الخاص، وتتباهى الصين بأن نظامها الاقتصادي مثمر، بدليل ارتفاع عدد الأثرياء في الصين إلى 200 مليون، منهم 80 مليون بالغي الثراء وترى أن هذا العدد الذي يتزايد بالفعل هو مؤشر على الحرية الكاملة للقطاع الخاص.
Categories: أعمدة الرأى