مِصرُ الخالدة .. بأقلام مبدعيها
بقلم : أ. د. أمين السعدني*
أرى القاهرة بعيون نجيب محفوظ ، الذي كتب عنها كما كتب تشارلز ديكنز عن لندن، وإميل زولا عن باريس، فلم يترك نجيب محفوظ حياً ولا شارعاً ولا زقاقاً ولا مقهى ولا درباً ولا حارة ولا معلما قاهريا إلا ورسمه حياً في مخيلتي و المخيلة الجمعية للقراء ، فجعلني ألهث من الطواف حول دوائر المدينة ، ويعتريني الدوار وأنا أسند رأسي إلى مضجعي في الحجرة.
وأرى ريف مصر بعيون محمد عبد الحليم عبد الله، الذي نقل الحقول والأشجار والسواقي والترع والمصارف والمواشي والمصاطب ، من خشونة الأرض إلى نعومة الورق ، فجاس خلال ديارها بقلم المبدع العاشق لمسقط رأسه، عندما صور نشأة أمثالي بإقتدار لا يُضاهى ، ولم أكن – بطبيعة الحال- في حاجة إلى أن أتمثل هذا العالم ، أو أن أتخيله ، لأني نشأت وتربيت فيه، وشممت ترابه، ونقعت في مائه، و أرتويت من معينه الثقافي، حتى أصبح المكتوب والواقع تماهياً يصل بكل يسر إلى درجة الكمال.
وأرى الصعيد بعيون بهاء طاهر، الذي تمكن بألمعية خارقة للعادة أن يجسر الفجوة بين قيم الجنوب والشمال ، وأن يرسم خطوط التماس الفكري بين عقلي الوادي والدلتا ، مبرزا توحد النبع المصري، مهما تعددت أو اختلفت أنماطه. ولم يعادله في ذلك إلا عبد الرحمن الأبنودي ، و إن لم يكن يبارزه في تجسيد الروح التي تقتات على ثقافة الجنوب.
وأرى كل شبر في مصر بعيون الدكتور جمال حمدان ، ذلك الذي يهيم بمصريته حتى النخاع، ويشرب خمر عشقها حتى الثمالة ، فعند القراءة لهذا الرجل ، تشعر بإنطماس الخط الفاصل بين الجغرافيا والأدب ، بل بين الجغرافيا والشعر ، فهو من جعل دراسة وضع الأرض و كأنها دراسة لسماء الفكر ، وجعلني أفتش في باطن الجغرافيا عن حقائق التاريخ ، وأن أبحث في الجبال والغابات والسهول والأنهار عن المثل العليا للإنسان.
..
أري مصر بعيون المتيم ، فأحبها على السعة والضيق ، فسعتها جنة الراضي ، وضيقها جنة المحب ؛ ولمن عرف مقام مصر جنتان.
* أستاذ الفلسفة السياسية – كلية الآداب.
Categories: أعمدة الرأى