” الوعد الإلهي & وعد بلفور ” ( التاريخ بين الحقيقة والأسطورة )
بقلم الكاتبة و الإعلامية الفلسطينية /
حنان بكير
كثرت وتعددت تعريفات مفهوم التاريخ. وكلها تختصر التعريف، بأنه سجل الأحداث والوقائع التي حدثت في الماضي. وقد أعتدنا تقبل مرويات كتب التاريخ بما تورده من وقائع، دون مناقشة أو تحليل، ومع تطور العقل البشري أخضع الباحثون والمفكرون، دراسة التاريخ إلى مناهج فكرية ومنطقية، وخرجت من إطار تقبلها كمسلمات مقدسة. المؤرخ ابن خلدون، الذي يعتبر أحد روّاد علم التاريخ بصيغته الحديثة، قال : إن التاريخ في باطنه هو النظر والتحقيق وتعليل الكائنات ومبادئها، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها”. وكان أن اعتُبر، أي ابن خلدون، واضع اللبنة الأولى لما سُمي بفلسفة التاريخ.. وسار على نهجه المؤرخ الفرنسي فولتير. ومن تعريفات علم التاريخ، يرى المؤرخ المغربي عبدالله العروي: أن التاريخ من صنع المؤرخ، فالمؤرخ هو من ينتقي من الأحداث التاريخية المحفوظة، ليصنع الأنساق ويستخلص الحقائق.
وضمن هذا السياق، يرى بعض المؤرخين أن التأريخ هو الكتابة عن الماضي، والتاريخ هو إعادة قراءة ما حدث وإعادة كتابته بصورة أخرى أقرب الى الحقيقة. ما يطرح للبحث، موضوع مدى مصداقية ما يصل إلينا من تأريخ للأحداث والوقائع.
أنا لست مؤرخة، ولا أتعدى على التاريخ. لكني استطعت من تجاربي المتواضعة، اكتشاف كيف يُدوّن التاريخ، وكيف يتم آنتقاء الحدث المراد تدوينه. خلال الحرب اللبنانية التي بدأت العام 1975، شهدنا أحداثها بكل تفاصيلها. وكنا شهود عيان على أحداث كنّا نعايشها، ثم نقرؤها في اليوم التالي على نحو مغاير. ولكل طرف من المتحاربين له إعلامه وروايته التي تخدم استراتيجيته!
ذات مرة، قمت بتدوين ذاكرة الشخصية الفلسطينية المعروفة رفعت النمر. أخبرني في سياق حديثه، عن حادثة تاريخية، كان شاهدا عليها العام 1948، خلال الحرب في فلسطين. وعن دور الجيش العراقي المشرّف فيها، قال.. إن منطقة مثلث النار ” نابلس، جنين، وطولكرم” قد تحررت إلى حين، وبشكل كامل من القوات الإنكليزية والعصابات الصهيونية، وذلك بمساعدة الكتيبة العراقية، المتواجدة في فلسطين، بقيادة عبد الكريم قاسم.. فصدر أمر من نوري السعيد، رئيس وزراء العراق آنذاك، للكتيبة العراقية بعدم إطلاق النار. حين قرأ نص المقابلة قياديّ في أحد الأحزاب والتنظيمات، احتجّ، وأشار عليّ، حذف اسم عبد الكريم قاسم، وعدم ذكره بالمطلق، رغم ما قدّمه للقضية الفلسطينية لاحقا. سألت القياديّ وبوجود من قدّم لي المعلومة: ألست موافقا على صحة المعلومة؟ أجاب وبهدوء: المعلومة صحيحة، لكن لا نريد ذكر اسم ذلك العسكري!
ذُهلتُ ولم أدهش.. إذ كنت على إلمام بالعداء بين حزب ذلك القيادي وعبد الكريم قاسم! فازدادت قناعتي بأن التاريخ الذي نقرأ ليس مقدسا، وليس علينا تقبله كما وردنا، بل يستلزم البحث التاريخي الدقيق الخاضع للمنطق. فالمؤرخون هم بشر ولهم أيديولوجيات دينية، أو سياسة أو إجتماعية. ويختلف المؤرخون، أيضا في قراءة وتحليل النص، بحسب انتمائهم السياسي.
حين بدأنا بدراسة تاريخنا منذ المرحلة الآبتدائية وحتى الثانوية.. امتلأنا عزة وفخارا بتاريخنا. وليس انتقاصا من تاريخنا وما قدمناه من إسهامات في حضارة ذلك الزمان، لكنّا لم نقرأ ما فعله أسلافنا من جرائم ومجازر خلال غزوهم وامتدادهم على رقعة جغرافية واسعة. فهل تمّ الفتح بنثر الزهور ورشّ الأرز مثلا؟ في الحروب كل الأطراف ترتكب الخطايا، لكنّا لم نقرأ شيئا عن أعمال عنف مارسها أسلافنا. وأطلق مسمى فتوحات بدل الغزوات، كنوع من تلطيف مسمى الغزو. كُتب تاريخنا بعد مبالغة شديدة في تلميعه. ومحاربة لمفكرين أخضعوا تاريخنا للمنطق في دراسته وتحليله. ومن أجمل الكتب التي قرأتها في هذا السياق، كتاب ” الفتنة” للمفكر هشام جعيط.
ومن ناحية أخرى، يقول المؤرخ الإسرائيلي ” آلان بابيه” أن المرء يتحسر على الماضي حين كان في وسع الباحث الإسرائيلي أن يعيد قراءة مستند تاريخي ما، بطرائق موضوعية، دون أن تُرفع في وجهه تهمة الخيانة العظمى! وهذا إعتراف بوجود ضغوط تمارس على الأكاديميين والباحثين، لعدم كشف الحقائق، وتبنّي وجهة النظر السياسية للحكام. ورغم التطور التكنولوجي، ما زال التاريخ عُرضة للتزوير والتحريف.
حين نكتب عن التاريخ يبرز تساؤل مشروع: هل يمكن اعتبار التاريخ إذن صناعة وبأي معنى؟ في العام 1948، وبعد إعلان كيان دولة اسرائيل، جمع بن غوريون، المؤرخين والمثقفين والكتاب اليهود وقال لهم: أنا قدمت لكم دولة، ومهمتكم صناعة تاريخ لها. ربما استشرف بن غوريون، بأن خرافة الوعد الإلهي، بإعطائهم أرض فلسطين، قد يسقط مع تطور العقل البشري، والوعي الإنساني، فأراد صناعة تاريخ دنيوي لدولة قامت على اغتصاب أرض شعب آخر، استنادا الى أسطورة دينية. وحديثا أكّد نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي..” نحن نصنع التاريخ”!
في كتاب “لعبة الأمم” لمؤلفه مايلز كوبلاند، يرى أن الأمم كقطع الشطرنج تحركها وزارة الخارجية الأميركية. وشكّل الكتاب صدمة كبيرة، للرأي العام العالمي والعربي، لكشفه كواليس السياسة، وحقيقة المواقف السياسية، المغايرة لما يُعلن عنها. وتبرز أهمية الكتاب، كون المؤلف ضابط مخابرات أميركية، سي آي إيه.. ولديه من الوثائق ما يدعم أقواله. وقد أظهر الزعماء العرب على عكس الصورة التي يظهرون بها، وأن سياستهم المعلنة، تختلف عن سياستهم خلف الكواليس، تلك المواقف التي صارت اليوم صريحة وعلنية، سيما المواقف المتعلقة بالقضية الفلسطينية.
ويشكل العامل الديني، سببا آخر، للشكّ في مدى مصداقية التاريخ، فالتاريخ الديني يلغي التاريخ الدنيوي، ويخضعه لرؤيته وروايته، انطلاقا من القداسة الإلوهية. ويرى المفكر فراس السواح : ” أن الأسطورة تنظر الى التاريخ باعتباره تجليا للمشيئة الإلهية. أما التاريخ فينظر الى موضوعه باعتباره تجليا للإرادة الإنسانية في جدليتها مع قوانين فاعلة في حياة الإنسان الإجتماعية” .. و “أن هناك صلة قوية تعقد بين الميثولوجيا والتاريخ، باعتبارهما ناتجان ثقافيان ينشآن عن النوازع والتوجهات، رغم ما بينهما من اختلافات تجعلهما يبدوان وكأنهما نظامان مستقلان لا يربط بينهما رابط”.
ففي البدء كانت الأسطورة. أسطورة التكوين، منذ مرحلة العماء الهيولي ، وسيادة ألوهية المياه. الى زمن ولادة الكون، وظهور أول مخلوقين آدم وحواء، وخروجهم من الجنة، للكدح على الأرض وتأمين القوت اليومي. مرويات تناقلتها معظم الديانات اللاحقة. لكن تلك الأساطير التي دخلت التاريخ وتأثرت بها الديانات اللاحقة، وتطورت بحسب تطور العقل البشري، ما هي إلا ” أساطير بابل وسومر . وما زال النفس الأسطوري يتحكم في بعض العقول، أو هو استعمال للتاريخ الميثولوجي لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية، ولا يخرج من هذا النطاق استعمال الدين في الحروب الصليبية. واغتصاب أرض فلسطين، وتشريد شعبها بناء على وعد إلهي بإعطاء اليهود تلك الأرض، فتماهى الوعد الإلهي مع وعد بلفور الإنكليزي!
Categories: أعمدة الرأى