أول مايو . . فلندع الكلاشيهات ولنبدأ العمل !
بقلم: طارق أحمد مصطفى
منذ صحي وعيي على عيد العمال عندما كنت طفلاً، ثم شاباً ثم مثقفاً عمالياً مهموماً بمشاكل العمال ومعنياً بقضاياهم، وهناك شيئ ما بداخلى يشعرني أن عيد العمال إنما هي اسم لا يعبر عن مسماه فالعمال هم آخر من يعنيهم هذا العيد في الحقيقة، إلا باعتباره يوم راحة إضافية لهم من عناء العمل، أو يوماً يحصلون فيه على قروش قليلة إضافية مقابل الكثير من التصفيق.
ففي أيام الطفولة كنت اعتقد أن عيد العمال هو المناسبة التي يخطب فيها رئيس الجمهورية (السادات ثم مبارك ومن قبلهم عبد الناصر) أكبر وأطول خطاباته الجماهيرية وأشملها، يتناول فيها الأوضاع الداخلية بصفة خاصة وبعض الرسائل الخاصة بالأوضاع الخارجية، ويستعرض فيها قدراته الخطابية كما يستعرض شعبيته عند الطبقات العاملة الشعبية، يتباسط مع الحاضرين المختارين بعناية بعد مراجعات أمنية، ويخرج عن الكلمة المكتوبة بأريحية، ويضحك معهم أحياناً على سجيته مستدعياً أصوله الريفية والشعبية، ويرد على مقاطعاتهم العشوائية ومطالبهم المتكررة المحفوظة: “المنحة يا ريس”، هو يعلم أن أحدهم سيقاطعه مطالباً بها بينما يرد عليه بالرد الذي ينتظره الجميع وكأنه اتخذ قراره للتو، كي يحصل على السوكسيه المطلوب أمام الكاميرات.
تعلمنا إذاً أنا وجيلي من خبرة الطفولة والمراهقة، أن عيد العمال هي مناسبة تخص الرئيس، ومعه الحزب الحاكم، وعندما كبرنا وصرنا على مشارف الالتحاق بسوق العمل لم نكن نتصور – أنا والأعداد الكبيرة التي دخلت الجامعة – أن وصف العمال سوف يلحق بنا بأي حال من الأحوال. فتصوُرنا عن العمال أنهم الحرفيون المهنيون أصحاب الياقات الزرقاء، أما نحن فسوف نحصل على ثمرة مثابرتنا في المذاكرة وطاعة والدينا والتزامنا في سلك التعليم بأن نكون محاسبين ومحامين وأطباء ومهندسين وموظفين أو أي ممن يطلق عليهم أصحاب الياقات البيضاء، نجلس على المكاتب النظيفة ونطلب الشاي والقهوة والاحترام من طبقة العمال، ونتوقع أن تكون أجورنا أعلى ومعيشتنا أرقى منهم كثمن عادل لتميزنا.
وعندما التحقنا بالعمل الوظيفي، حصلنا كخريجين جامعيين على لقب “أستاذ” أوبشمهندس، بينما حصل العمال المهنيون على لقب “عم” أو أوسطى، كنوع من التمييز الطبقي، ولكن المفارقة أننا اكتشفنا أنه على اختلاف وظائفنا فنحن جميعاً عمال، أُجراء، نخضع معاً لسلطة صاحب العمل، ونتطلع معاً للمنحة والعلاوة، ونتزاحم معاً في المواصلات وعند الصراف لقبض مرتباتنا، وعند دفاتر الانصراف لنسترد حريتنا. نحن إذاً “عمال” ليس أكثر، ولا مبرر بالمرة لاحساس التميز الذي استشعرناه كأصحاب مؤهلات عن الفنيين وأصحاب المهن الحرفية، بل إننا اكتشفنا أن العامل الحرفي كثيراً ما يكون أكثر أهمية وأعلى أجراً من ذوى المؤهلات. اكتشفنا أننا قد انسقنا وراء تطلعاتنا الطبقية، بينما أعادنا الواقع لإدراك حقائق الأشياء.
بعد اكتشافنا لتلك الحقيقة وتعايشنا معها أصبحنا نرى عيد العمال بشكل مختلف، فصار مناسبة إما لتملق السلطة بطريقة لزجة للحصول على بعض المكتسبات المؤجلة، أو فرصة للتباكي الجماعي على معاناتنا داخل هذه المنظومة الوظيفية الغير عادلة، والمزايدة من بعض المتاجرين باسم العمال وحقوقهم من أجل مصالح لا تخصنا. هذا من جانبنا، أما من جانب السلطة وأصحاب الأعمال فعيد العمال ربما تكون فرصة لمبادلتهم تملقنا بتملق، فهم كذلك يتملقوننا كطبقة عاملة، ويمنحوننا بعض عبارات الإطراء التي لن تكلف شيئاً حفظاً لماء الوجه، ويحاولوا دغدغة مشاعرنا بالشعارات الوطنية الرنانة، حتى نشعر ولو ليوم واحد فى العام بأننا مهمون وغير منسيين فنبتلع مرارات الحياة اليومية عندما نسمع من الشخصيات المهمة أننا سند الوطن وجنوده المخلصين، بينما نعلم أن بعض من يتكلمون باسمنا سوف يدفعون ثمن هذه العبارات أضعافاً مضاعفة من تكبُّد “التكاليف” السياسية، وتجرُّع “التكاليف” الاقتصادية الاجتماعية.
أما كمثقِّف عمالي ومدرب نقابي، فأجدني أغار على مناسبة “عيد العمال” أن تمر كل عام دون أن نستفيد منها لصالح تحسين أوضاع الطبقة العاملة وتطوير الفكر العمالي في الاتجاه الذي يتواكب مع متغيرات الواقع واحتياجات المستقبل. وأحزن كثيراً أن تمر السنوات تلو السنوات ولا تزال هذه المناسبة موسماً للكلاشيهات المحفوظة من الجميع.
فعيد العمال هو في حقيقته مناسبة لتذكر تضحيات العمال بأرواحهم من أجل الدفاع عن حقوقهم وتحسين أوضاعهم، هو مناسبة لإيقاظ ضمير العالم نحو أوضاع الطبقة العاملة، وإعادة إحياء للمطالب العمالية المتكررة والمتراجعة أمام الأزمات والمشكلات المحلية والعالمية المتراكمة والمتجددة، وفرصة لحشد الطبقة العاملة على كافة المستويات لرفع صوتهم واستعادة أولوية قضاياهم وتصدرهم لمكانتهم الحقيقية باعتبارهم الضلع الأهم فى العملية الاقتصادية، وهي مناسبة مهمة قبل كل ذلك لتنوير وتثقيف وتطوير فكر الطبقة العاملة وتنشيط ذاكرتهم المعرفية ليظلوا محتفظين بولاءهم وانتماءهم لطبقتهم، وتجديد إيمانهم بمواطن قوتهم ومشروعية تحركهم في سبيل حقوقهم ومصالحهم، وفرصة ليعيد أبناء الطبقة العاملة التفكير في مستقبلهم فى ضوء المتغيرات ويبحثوا مستقبلهم المشترك على المستوى المحلي والعالمي.
وكم أتمنى ألا يقتصر احتفال عيد العمال على يوم 1 مايو من كل عام، ولكن يكون 1 مايو هو مناسبة لاطلاق النقابات العمالية موسماً ثقافي يستمر خلال شهر مايو بالكامل، يشمل ندوات فكرية وعروض أفلام وثائقية ودورات تدريبية ومسابقات وجوائز تفوق، ينطلق هذا الاحتفال والموسم الثقافي ليخاطب بفاعلياته العمال ورجال الأعمال والشباب ومنظمات المجتمع المدني والمنتديات الثقافية والمؤسسات الأكاديمية فضلاً عن المؤسسات الحكومية والتشريعية، يكون فرصة لحراك مجتمعي حيوي يدور كله حول الطبقة العاملة وقضاياها، ويثمر فى كل دورة عن أفكار جديدة لاستشراف مستقبل علاقات العمل ولتأكيد استدامة الرؤية الإيجابية المتطورة نحو العمل والعمال، ولا مانع من احتفاليات كرنفالية في الأماكن المفتوحة تشمل عروض فنية يجتمع فيها العمال وأسرهم ليؤكدوا تضامنهم وانتماءهم وترابطهم الاجتماعي.
وربما تكون هذه الأفكار مثالية بعض الشيئ وخاصة فى ظل واقع فقد فيه كل ما له علاقة بالعمال بريقة ورونقه وقيمته الأدبية والمادية، بينما يتصاعد الخطاب المحفز على العمل الحر وريادة الأعمال والتجارة الألكترونية والعمل من خلال الإنترنت والمبشر بخيراته، وهي معاني لا بأس بها بل هي ضرورية بلا شك ولكن ليست كبديل عن فكرة العمل المأجور التي ستظل هي مصدر الدخل الرئيسي لأغلب البشر، لذلك من المؤسف أن يزيد الترويج لهذه المفاهيم في حين تتراجع أهمية تنمية ثقافة العامل، وتتراجع المكانة الأدبية الأدبية للقب العامل، وتتدهور النظرة المجتمعية كثيراً لمصطلحات العمل – العمال – النقابات العمالية – الثقافة العمالية – القوى العاملة، ظناً من البعض بأن تلك أمور من ميراث المرحلة الاشتراكية التي يريد الجميع التبرؤ منها، وهو ظن خاطئ بكل تأكيد يروج له أنصار الليبرالية الجديدة كي تنفرد الساحة لسيطرة رأس المال على حساب قوة العمل البشري.
ولا يفوتنى أخيراً أن ألفت النظر أنه فى ظل أزمة تفشي فايرس كورونا الحالية، أصبحت التنبؤات السياسية والاقتصادية بصفة عامة ليست فى صالح العولمة والاقتصاد الرأسمالي وأنماط الاستثمار المالي غير الإنتاجي، بينما تصدرت أولوية قضايا البطالة وأوضاع العمالة غير المنتظمة وإجراءات السلامة والصحة المهنية، وأصبحت الفرصة سانحة لتصحيح كثير من الاختلالات التي تسببت فيها هذه السياسات الاقتصادية التى سيطرت خلال السنوات العشرين الأخيرة، ولا بد للعمال ومنظماتهم أن يكونوا على قدر الحدث وأن يسبقوا التغيير القادم بخطوات . . وهذا ربما يكون موضوع مقال قادم بإذن الله.
Categories: أعمدة الرأى
Posted: 5 مايو، 2020 02:51
حسن سعيد
Posted: 11 يوليو، 2020 20:45
WEA
Posted: 27 يوليو، 2020 02:58
WEA