الحركة العمالية والحرب الباردة
بقلم: طارق أحمد مصطفى
قبل أن تنتهى الحرب العالمية الثانية، كان الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية قد بدءوا التفكير فى وضع أسس لنظام دولى جديد يتفق مع تصوراتهم لعالم ما بعد الحرب على الجانبين السياسى والإقتصادى. وقد كان شبح الأزمة الإقتصادية فى الثلاثينات لا يزال مخيماً على الإقتصاد العالمى، لذلك عُقد مؤتمر اقتصادي تاريخي في مدينة “بريتون وودز” الأمريكية فى يوليو 1944، والذي أقر إلغاء معيار الذهب الذى إعتُبِر أحد أهم أسباب تلك الأزمة، وتم إستبداله “بالدولار” كمعيار لأسعار صرف العملات باعتباره العملة الأقوى عالمياً في ذلك الوقت، كما تمخض كذلك عن إنشاء البنك الدولى وصندوق النقد الدولى لمراقبة قضايا التمويل و الصرف على المستوى العالمى. وأما الضلع الثالث من ثالوث الاقتصاد العالمي والمتعلق بقضايا التجارة فقد حالت الخلافات الأيديولوجية بين الكتلتين دون اكتماله، واكتفى عدد من الدول الصناعية الكبري ذات الاقتصاد الحر بالتجمع تحت “الإتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة” GATT منذ 1947، وهو ما قاطعته دول الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي وقتها، واستمرت جولات الGATT في الانعقاد منذ ذلك التاريخ، والتي لم تتحول إلى منظمة دولية إلا عام 1995 بإعلان إنشاء منظمة التجارة العالمية WTO. ومن ناحية أخرى فقد اعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية أن إستمرار الأوضاع الإقتصادية المنهارة لأوروبا بعد الحرب، هو إذكاء وتدعيم للحركات الشيوعية النشطة، لذلك أعلن وزير خارجيتها “جورج مارشال” ، فى محاضرة بجامعة هارفارد فى 5 يونيو 1947، مبادرة مهمة عُرفت فيما بعد بإسم (مشروع مارشال)، وضع من خلالها برنامجاً خاصاً لمعاونة أوروبا إقتصادياً وإعادة إعمارها، خاصة وأن الاقتصاد الأمريكي كاد يكون هو الاقتصاد الوحيد الذي لم يتضرر من الحرب، بل خرج منها منتعشاً وفي أحسن حالاته.
وعلى الرغم من الروح الإصلاحية التى نمت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والسعي لبناء نظام عالمي يحقق السلام ويحمي حقوق الإنسان، إلا أن ذلك الخلاف الأيديولوجي بين حلفاء الأمس، قد قسّم العالم إلى كتلتين كبيرتين متباينتين تبايناً شديداً في الفكر وفلسفة الحكم، الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية من جهة، والإتحاد السوفيتى وأوروبا الشرقية والصين من جهة أخرى، بالإضافة إلى كتلة ثالثة تعلن عدم انحيازها لأي من الكتلتين. ذلك الانقسام جعل التنافس يتصاعد بين الكتلتين من أجل قيادة العالم، وتصاعد التنافس حتى وصل إلى الصراع، حتى عُرفت تلك المرحلة التى أعقبت الحرب الثانية بعصر “الحرب الباردة”، وقد لُقبت بـ”الباردة” لأنها لم تكن حرباً بالمفهوم العسكري، فالحرب المسلحة الشاملة كانت شبه مستحيلة في تلك الفترة، لذلك دار هذا الصراع على الجانب الأيديولوجي، وما يلحق به من منافسة إقتصادية وإجتماعية وسياسية وثقافية، كل طرف فيها حاول أن يثبت لشعبه أنه “الفكرة الأصلح” وللآخرين أنه “الفكرة النموذج” ، من خلال تحقيق التقدم الإقتصادى والتنافس فى إنشاء الصناعات الثقيلة وتطوير التكنولوجيا وتحقيق تراكم للثروات وغزو الفضاء، بالإضافة لسباق التسلح.
وبشكل عام، خلال الربع قرن التالى للحرب الثانية، ونتيجة لروح الإصلاح المشبعة بالمنافسة الأيديولوجية، حقق العالم فى معظم أجزاءه معدلات نمو عالية، فقد استعادت أوروبا قوتها الإقتصادية، وقامت كل من ألمانيا واليابان بإعادة بناء ما دمرته الحرب وإستعادة توازنها ، وبدأ الغرب الرأسمالى فى بناء دولة الرفاهية ودفع مشروعه التحديثى، وكذلك إكتسب النظام السوفيتى ونموذجه فى التخطيط الإقتصادى المركزى إحتراماً عاماً فى دول العالم ، كما تمكنت الكثير من الدول النامية من التحرر والإستقلال السياسى ، وحققت أشواطاً كبيرة فى التنمية الإقتصادية، وتحقق للطبقة المتوسطة إزدهاراً إقتصادياً وإجتماعياً كبيراً، وغلب على العالم شعور بالتفاؤل بالمستقبل والثقة باللاعبين الأساسيين على الساحتين الإقتصادية والسياسية، وكفاءة الحكومات والمنظومة الدولية في إدارة المرحلة.
ولم تكن دول الكتلة الشرقية فقط هي من اهتمت بالبعد الاجتماعي، فقد طبقت الحكومات العالم الحر مجموعة من السياسات الإجتماعية فى تلك الفترة تهدف لتحقيق التنمية الاقتصادية، عُرفت بسياسات دولة الرفاهية بالولايات المتحدة الأمريكية، وبسياسات الإشتراكية الديمقراطية فى دول غرب أوروبا، وشملت هذه السياسات: التأمين ضد البطالة ، بونات الطعام الرخيص، برامج الرعاية الصحية، وغير ذلك، لدرجة جعلت بعض الإقتصاديين يعتبرون أن هذه السياسات قد أدت هى نفسها إلى إرتفاع معدل البطالة الطبيعى، بسبب تأثيرها السلبى فى ميول الأفراد تجاه العمل، حيث يحصل العامل الذى سرح من الخدمة على إعانة بطالة معفاة من الضرائب قد تصل إلى 50% من أجره السابق لعدة شهور وهو ما قد يكتفي به المتعطل وتجعله لا يقبل بالعمل مقابل أجور أقل أو مماثلة. وليس ذلك وحسب ، بل كانت الغالبية العظمى من الشركات العالمية تتقاسم حتى الثمانينات ما يقرب من 70% من أرباحها مع العاملين لديها سواء الفروع الرابحة أو غير الرابحة، وكانت الشركات الكبرى على وجه الخصوص تعطى مستخدميها رواتب تفوق ما جرت عليه العادة فى سوق العمل.
وكان هذا المناخ وما صاحبه من وعى إجتماعى كبير، عاملاً أساسياً فى تفعيل منظومة حقوق الإنسان، وتنشيط دور المنظمات الدولية التى تهتم بتحقيق العدالة الإجتماعية وتكافؤ الفرص، ومنها منظمة العمل الدولية، التى تمكنت خلال تلك الفترة من إعتماد مجموعة واسعة من معايير العمل الدولية ، والتصديق الواسع بشأن الحرية النقابية، وتنمية آلية المفاوضة الجماعية لدعم مطالب العمال وتفعيل الآلية الإشرافية للمنظمة ، وتم الحفاظ على ما يمكن أن يسمى عقد إجتماعى ضمنى بين رأس المال والعمال يضمن المشاركة فى المكاسب وتجنب وجوه الصدام .
ورغم الصراع البارد بين الكتلتين إلا أن هذا الصراع نفس قد أدى إلى بعض النتائج الإيجابية، كالتنافس فى مجال العلم والتكنولوجيا، كالطاقة النووية والفضاء والاتصالات وغيرها من المجالات العلمية التى تطورت بشكل كبير، وانتقلت إلى مجال الإنتاج والخدمات وفتحت أمام البشرية آفاقاً كانت تبدو من قبيل الخيال العلمى. وكان لتلك الفتوح العلمية أثرها على نوعية حياة الناس، وعلى إيقاع الحياة ومذاقها وطابعها العام، وبهذه النقلة الهائلة فى التاريخ الإجتماعى حدث فى حياة الناس حراك إجتماعى كبير، وإعادة تشكيل للتركيب الطبقى، اتسع معه نطاق الطبقة الوسطى بشكل كبير، وأعاد كذلك تشكيل للإنتماءات الفكرية على مستوى العالم، ومراجعات جذرية للأيديولوجيات القديمة.
إلا أن “سباق التسلح” والتسابق على النفوذ بين الكتلتين قد أضاع على البشرية موارد طائلة، وأرهق أعصاب العالم فى أوقات إشتداد الأزمات، وأوصل بعض بؤر التوتر الدولى إلى حروب محلية وإقليمية. كما بدأت الأزمات العالمية الواحدة تلو الأخرى منذ السبعينات: كأزمة الغذاء 1970، وأزمة الطاقة 1973 (التي سببتها الحرب العربية الإسرائيلية)، وأزمة المديونية 1982، وغيرها من الأزمات التى قد ترجع إلى الإرتفاع المفرط فى مستوى الرفاهية فى الدول الغربية، والجمود السياسي والإداري فى الدول الاشتراكية، إلى جانب الفساد وتفاقم المديونية وتفاقم البطالة الذى إستشرى فى الدول النامية وقضى على خططها التنموية.
وتحت وطأة هذه الأزمات والمشكلات ، ظهرت الإتجاهات الليبرالية الجديدة التى تتبنى الدعوة للعودة إلى السوق، وتخلى الدولة عن التدخل المباشر فى الإنتاج، والاتجاه إلى خصخصة الشركات والمشروعات الإقتصادية العامة. وكانت بداية هذه الدعوة على يد رئيسة وزراء بريطانيا السابقة “مارجريت تاتشر”، والتى اختارت تعبير الخصخصة (Privatization) لأنه أقرب إلى معنى الخصوصية والحرية الفردية. وجاء الرئيس الأمريكى السابق “رونالد ريجان” متبنياً نفس الإتجاه الليبرالى، ومدافعاً عن تقليص دور الدولة والتخفيف من القيود والأعباء المفروضة عليها. وعلى الجانب الآخر بدأ الرئيس السوفيتي “ميخائيل جورباتشوف” فى تبني سياسات البريسترويكا والجلاسنوست، أو إعادة الهيكلة والانفتاح، وانفتح الأفق للشعوب السوفيتية نحو التعبير الحر عن مطالبها السياسية والاقتصادية والتى أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي من داخله.
تلك التحولات التي سببتها الحرب الباردة، قد غيرت وجه الحياة على مستوى العالم على كافة المستويات، وكان العمال في مقدمة الفئات المتأثرة بها، وهو ما يقدم دروساً مهمة على الحركة العمالية أن تعيها جيداً، وأهمها أنه على أبناء هذه الحركة والمنتمين إليها والمتعاطفين معها ألا يغفلوا قراءة حركة الأحداث العالمية والمحلية في سياقها التاريخي في تحليلهم لأوضاعهم الراهنة واستشرافهم للمستقبل، وعند اتخاذهم للمواقف وبناءهم للاستراتيجيات.
Categories: إطلالة تاريخية