طالب الجامعة العمالية الذي تحول إلى سمكة
بقلم : طارق أحمد مصطفى
دخل مكتبي ليستفسر عن شيئ، رفعت وجهي لأنظر إليه ولكنني لم استطع، لم أزل وقتها حديث التعيين بإدارة هيئة التدريس بالجامعة العمالية في أواخر عام 1994وبدايات 1995 مع بداية أول عام دراسي للشعبتين الجديدتين، التنمية التكنولوجية والعلاقات الصناعية، حيث حصلت الجامعة العمالية لتوها على قرار من وزير التعليم العالي بإنشاء شعبتين تابعتين لها تمنح كل منهما دبلوم فوق متوسط أحدهما صناعي والآخر تجاري، وسمحت الوزارة لنا في البداية بالقبول اليدوي المباشر من خارج مكتب التنسيق كما سمحت بقول طلاب من سنوات سابقة، فكان الإقبال كبيراً، وكانت الفرحة والأمل فى عيون المتقدمين مبهجاً، وكذلك كان في عيون قيادات الجامعة والعاملين فيها.
اسمه محمد، كان طالب بالدفعة الأولى بأحد الشعبتين، تلك الدفعة التي امتلأت بشباب حصلوا على مؤهل متوسط، ونتيجة لظروفهم لم يتمكنوا من الالتحاق بأي برنامج دراسي وفقدوا فرصتم فى استكمال تعليمهم، وكان افتتاح هاتين الشعبتين باب أمل لهم فكانوا مقبلين على الدراسة بحماس ملفت. ومحمد مثله مثل زملاءه يريد أن يبدأ بداية جادة ويهتم بالسؤال عن جداول الدراسة وأماكن القاعات ويستفسر عن كل شيئ، ومع أول مرة دخل عليّ المكتب ورفعت رأسي لأنظر إليه رددت بصري وأصابني القلق، فقد كان يعاني من درجة متقدمة من مرض الصدفية وهو مرض جلدي يظهر على الجلد في صورة قشور جافة أشبه بالأصداف أوبقشور السمك، وفيما يبدو لم يكن علاجه يسير بشكل صحيح فتفاقمت حالته لدرجة مفزعة، فتساقط شعره وتأثر صوته وحواسه، وصارت له رائحة مثيرة للأمعاء، وتحول رأسه إلى ما يشبه السمكة بالفعل.
وبرغم حالة ذلك الطالب المسكين، فقد كان ملتزماً دراسياً، محافظاً على الصلاة بمسجد الجامعة، بينما أخاف أنا عند ذهابي إلى الصلاة بالمسجد أن تأتي وقفتي بجواره، وأمه المشفقة عليه كثيراً ما جاءت بصحبته ونحن كموظفين وأعضاء هيئة تدريس نستضيفها بمكاتبنا لتنتظره حتى انتهاء محاضراته. وللحق فمحمد رغم حالته لم يكن منطوياً، ولم ألاحظ أن زملاءه يهينونه أو ينفرون منه بل على العكس، كانوا في غالبهم شباب طيبون، ساءت ظروفهم التعليمية فى وقت من الأوقات واضطر أغلبهم للنزول للعمل ليعولوا أنفسهم وأهلهم، وعندما انخرطوا فى العمل وجدوا أن قدراتهم الذهنية ليست أقل من كثير من زملاءهم ذوي المؤهلات العليا إن لم تكن أفضل، فتمنوا فرصة داخل هذا النظام التعليمي المغلق الذي تفرضه الدولة عليهم من أجل أن يكملوا تعليمهم ويثبتوا قدراتهم ويفتحوا لأنفسهم الباب ليرتقوا وظيفياً إلى حيث تذهب بهم كفاءتهم، وهو الباب الذي فتحته لهم الجامعة العمالية، بأقل مصروفات ممكنة.
تلك الفرصة التي فتحتها لهم الجامعة العمالية حسدهم عليها الكثيرون، وحاربهم فيها الكثيرون من زملاءهم بالعمل الأعلى وظيفياً، وشنع عليهم فيها الكثيرون من أبناء الميسورين الذين لم يتعبوا فى الحصول على تعليم عالى ولم يشعروا بقيمة هذه الفرصة كما شعر بها هؤلاء واحسنوا استغلالها، وقد واكبت تحركات الجامعة العمالية للتطوير طموح هؤلاء الطلاب وحاربت معهم ومن أجلهم حتى تتوسع أفقياً عن طريق إنشاء فروع جديدة، ورأسياً بالحصول على موافقة بسنتين تكميليتين للمتفوقين والجادين من الطلاب للحصول على البكالوريوس في تخصصي إدارة الأعمال ومراقبة الجودة، وبتطوير بنيتها التحتية من القاعات والمعامل والورش، ونوعياً من خلال السعي لافتتاح شعب جديدة بتخصصات جديدة كشعبة الفندقة.
وعبر سنوات عملي في هيئة تدريس الجامعة العمالية، ووجودي ضمن الجيل الأول من العاملين الذين شاركوا فى بناء الجامعة العمالية فى شكلها الجديد، عرفت مئات الطلاب، وكنت وأغلب زملائي في البداية شباباً متقاربين فى السن مع طلاب الدفعات الأولى، فتحت لنا الجامعة فرصة للعمل مثلما فتحت لهم فرصة لاستكمال التعليم، تصادقنا معهم واقتربنا منهم إنسانياً ومنهم من صاروا زملاء لنا فيما بعد، ومنا من ارتبط عائلياً مع بعضهم، قابلنا فيهم شباباً صاروا فيما بعد من نجوم الفن أو كرة القدم، ومنهم من سمعنا عن نجاحاتهم العملية العديدة التي أثلجت صدورنا.
وكان هناك اتفاقاَ ضمنياً فيما بيننا كطلاب وعاملين أننا مسئولين جميعاً عن هذا الكيان الذي جمعنا، ثم صرنا كعاملين وأعضاء هيئة تدريس مع استمرارنا في العمل نتعامل مع الدفعات التالية من الطلاب كإخوة صغاراً، وامتد العمر ببعضنا حتى صار لنا ابناء فى مثل عمر الطلاب الجدد، نغار على مصالحهم ومستقبلهم كما نغار على ابناءنا واخوتنا الصغار ، ومهما مرت السنين تستمر حالة الغيرة التي تجمع كل من شارك في مراحل البناء الأولى للجامعة، غيرةً على هذا الكيان الذي فتح أبواب المستقبل لمئات الشباب – طلاباً وعاملين، واستياءاً ممن ظهروا في مشهد الجامعة فيما بعد وأسائوا إليها، وقلقاً على مستقبل هذه الجامعة التي بنيت بالجهد والعرق، وعلى مصيرهم ومصير أسرهم في حالة استمرار التهديدات التي تهدد وجود الجامعة.
وبحسب ما أذكر فإن محمد قد خاض الامتحانات ونجح وانتقل للسنة الثانية، وبدأ الأمل يلمع فى عينيه هو وزملاءه، وشعروا أن الحياة بدأت في الابتسام لهم، خاصة عندما علموا عن اتجاه الجامعة لافتتاح دراسة تكميلية لهم لاستكمال الدراسة والحصول على مؤهل عالي، ولم تكن هذه فرصتهم الوحيدة بل إن الدولة كانت فى هذا الوقت أكثر تسامحاً وإيجابية مع هذه الشريحة من الشباب فسمحت للطلاب الأكثر تفوقاً منهم بإجراء امتحان تأهيلي يعطيهم الحق في استكمال دراسته بالجامعات المصرية الكبرى بكليات الهندسة أو التجارة بحسب تخصصاتهم.
إلا أن القدر كانت له كلمة أخرى، واختار أن يضع نهاية درامية لمأساة محمد. كانت مصر في هذا الأيام تشهد حدثاً جللاً، وهو محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك بالعاصمة الإثيوبية “أديس ابابا”، ولكن من مفارقات القدر أن تكون نجاة الرئيس من الموت سبباً في إنهاء حياة محمد، كانت الدولة المصرية تحشد لتنظيم احتفالات شعبية بنجاة الرئيس، ومن ضمن ذلك نُظمت احتفالية بالصالة المغطاة باستاد القاهرة وحُشد لها شباب الجامعات المصرية ليملأوا الصالة ويهتفوا للرئيس ويلوحوا بالأعلام، وتوجه مجموعة من طلاب الجامعة العمالية في أتوبيس جاء إليهم خصيصاً لينضموا لزملاءهم من طلاب الجامعات المصرية، وبحسب الرواية التي سمعتها من زملاء محمد فإن الجو كان شديد الحرارة خارج الصالة المغطاة، وقد جاءت جلستهم في أعلى نقطة بالصالة بالقرب من فتحات التكييف المركزي التى كانت مسلطة عليهم، ولم يتحمل جسد محمد وجهازه المناعي الضعيف فرق درجات الحرارة فسقط ميتاً بمجرد خروجه من القاعة وتعرضه لأشعة الشمس المباشرة.
وفي اليوم التالي لوفاته، وقفت بعد صلاة الظهر بمسجد الجامعة – الذي شهد من قبل قلقي من وقوفه إلى جواري – وتقدمت الجميع طلاباً وعاملين لصلاة الغائب عليه، وفي قلوبنا مرارة وحزن عميق. أراد المولى سبحانه وتعالى أن يضع بهذه الطريقة حداً لمعاناة ذلك الشاب المسكين واختاره إلى جواره، وتركنا جميعاً – دولةً وأفراداً – نحمل عار هذه النهاية المأساوية وكل نهاية مأساوية لكل شاب مثل محمد، نحمله في أرواحنا حتى وإن تناسته ذاكرتنا وتجاهلته ضمائرنا، نحمله كما سنحمل في صحائف أعمالنا أمام الله وزر أحلام الشباب التي أهدرت ولم نفعل ما يكفي لإيصالها للنور.
قصة محمد هي واحدة من قصص كثيرة استدعيها من الذاكرة كلما استحضرت البدايات الأولى للشعب الأكاديمية بالجامعة العمالية لأقارنها بأزمتها الحالية، وأتسائل بيني وبين نفسي هل المسئول الذي يجلس على كرسيه ليتحكم فى مقدرات كيان مثل الجامعة العمالية ومصير طلابها والعاملين فيها، هل يعلم هذا المسئول هذه التفاصيل الإنسانية التي تضج بها أركان هذا الكيان، هل يعلم قدر الجهد والعرق الذي بذل ولا زال يُبذل، وقدر الأحلام التي طارت وحامت في أجواء المكان ولا زالت تحوم.
وإن كان من وفاءٍ لذكرى محمد – ذلك الطالب المسكين – ولذكرى كل قيادات الجامعة الذين بنوا هذا الكيان وأسسوه ورحلوا عن دنيانا أو لازالوا على قيد الحياة، ولأحلام أجيال من الشباب من الطلاب والعاملين التي مرت ولا زالت على هذه الجامعة، فمنهم من حقق أحلامه في مستقبل أفضل من خلالها ومنهم من ينتظر، فإننا وفاء لهم جميعاً لا سبيل لكل مخلص إلا مواصلة العمل الدؤوب حتى تعود هذه الجامعة أفضل مما كانت، وهو أمر ربما يكون أقرب مما نتصور إذا توفرت الجدية وخلصت النوايا.
Categories: أعمدة الرأى, صوت الجامعة العمالية