الدولة الرأسمالية بين فوضوية السوق ودكتاتورية المصنع
بقلم : أ.د/ أشرف منصور
إن الواقع الفعلي للمجتمع الرأسمالي يتمثل فيكيانين اثنين أساسيين: السوق والمصنع،
أما الدولة فهي كيان وسيط يقع بين الاثنين. وكل الخيارات السياسية المتاحة أمام الدولة الرأسمالية تقع على خط واحد متصل، منحصر بين طرفين متناقضين، فوضوية السوق ودكتاتورية المصنع. بمعنى أن الدولة باعتبارها الكيان الوسيط، إما أن تقف بجانب السوق، أي رأس المال المالي وتميل للفوضوية، وهو ما يتمثل حالياً في الليبرالية الجديدة، أو تميل إلى جانب المصنع، أو رأس المال الصناعي، وتصبح خياراتها دكتاتورية، أو فاشية، وهو ما حدث بالفعل في تاريخ الرأسمالية من ظهور للنازية والفاشية، وميل نحو اليمين القومي أو الديني المتطرف لدى الكثير من حكومات الغرب في فترات تاريخية متفرقة.
السوق في النظام الرأسمالي فوضوي، والسبب في ذلك يرجع إلى أنه متروك لقوانينه العمياء التي يخضع لها المجتمع دون إرادة ودون وعي ودون تحكم أو سيطرة عقلانية.
مجال السوق الرأسمالي هو مجال الفوضى: صعود وهبوط مستمر للأسعار، تغير دائم في العرض والطلب، أزمات مستمرة تتراوح بين الكساد وفرط الإنتاج والتضخم، بطالة مستمرة وتهديد دائم بفقدان الوظائف، تحميل الفرد مسئولية الفشل البنائي للنظام.
هذه الفوضوية تسمى حرية، وتسمى ليبرالية، بدون وجه حق.
أما المصنع فهو على النقيض التام من السوق. فهو مجال الانضباط الشديد والدقة المتناهية والسيطرة التامة على الآلة وعلى مشغلي الآلة من البشر، وهو مجال تطبيق العلم والتكنولوجيا، أي المنطق الصارم والحتمية الآلية. وهذا هو ما يجعله مجالاً للقرار الاستبدادي وللتحكم الدكتاتوري. ومن داخل المصنع جاءت التايلورية والفوردية، وهي نظم في الإدارة والتنظيم والعمل بالغة الدقة والصرامة (انظر مشهد شارلي شابلن على خط التجميع)، مما جعل المصنع أكثر اضباطاً من الجيش. إنه منبع الدكتاتورية.
ولذلك فإن الدول التي لم تحدث بها ثورة صناعية تلقائية وأرادت التصنيع، لجأت إلى أنظمة سياسية دكتاتورية لفرض التصنيع على المجتمع.
وبين فوضوية السوق ودكتاتورية واستبداد المصنع توجد الدولة الرأسمالية، وهي تتوسط بينهما، بمعنى أنها تعالج الآثار السلبية لكل منهما بالميل تجاه الجانب الآخر: تحاول علاج فوضوية السوق بشيء من التدخل الاقتصادي الذي إذا زاد عن حده تحول إلى استبداد ودكتاتورية، وتحاول علاج دكتاتورية المصنع بالميل إلى فوضوية السوق.
التناقض الطبقي الأساسي في المجتمع الرأسمالي ليس بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة، بل بين طبقة رأس المال المالي Finance Capital وطبقة رأس المال الصناعي Industrial Capital، أي بين أصحاب رؤوس الأموال السائلة ورواد الصناعة، أو بين المستثمرين والصناعيين. والصراع الحالي هو الصراع بين هاتين الطبقتين، بعد أن خرجت الطبقة العاملة من المعادلة تماماً. حتى ستينيات القرن العشرين كانت القوة المسيطرة في أمريكا هي التحالف الصناعي العسكري The Military-Industrial Complex، الذي حذر منه آيزنهاور. أما الآن فإن وول ستريت هي المسيطرة، الممثلة للبنوك وشركات الاستثمار النقدي المسيطرة على الاقتصاد الأمريكي، والعالمي أيضاً.
والسبب في انحصار الاختيارات السياسية بين هذين القطبين المتناقضين، هو اختفاء المجتمع وتغييبه، وتغييب البشر أنفسهم بعد أن تمت السيطرة التامة عليهم. في ظل غياب السيطرة الاجتماعية الديموقراطية الواعية على السوق وعلى المصنع، يغيب التخطيط العقلاني الرشيد، ويفقد المجتمع سيطرته على موارده واقتصاده وثروته، فتسود المصالح الطبقية وتسيطر. ويتخذ النظام السياسي الشكل الذي يناسب الطبقة المسيطرة، فإذا كانت فوضوية السوق تناسب الطبقة المسيطرة، سادت الليبرالية الجديدة، وإذا كانت دكتاتورية المصنع هي التي ستحافظ على سيطرة الطبقة السائدة، مال النظام السياسي إلى الدكتاتورية، التي تتخذ الآن شكل الشعبوية الجديدة وصعود اليمين بكل أشكاله، الدينية والعرقية والقومية.
Categories: أعمدة الرأى