ويسألونك عن الروح
بقلم: طارق أحمد مصطفى
تقول الآية القرآنية الكريمة من سورة الإسراء (( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا))، وبما أن الروح من أمر الله فمن ثم علمها عند الله فلا ينبغي أن تتعب نفسك وتسأل، هذا هو ما يفهمه الناس عادة من هذه الآية، أنها تُغلق الحديث في باب السؤال عن الروح ماهيتها وكنهها وخصائصها، وهذا تفسير مريح لعوام الناس ولبعض المفسرين الذين يقفون عند حدود اللفظ، دون النظر إلى ما وراءه وما يدلل عليه وما بين السطور.
وحقيقة الأمر لو أعدنا النظر فى تلك الآية الكريمة، لوجدنا أنها فى الحقيقة إنما تفتح باب البحث فى هذه المسألة ولا تغلقه كما يتوهم الكثيرون، فحين تقول الآية: “قل الروح من أمر ربي” فهي فى حقيقة الأمر تعطينا مفتاح البحث وتنير لنا الطريق، فالروح هي من أمر الله، فهذا معناه أن لها كل ما لله تعالى من خصائص، فهي لا محدودة القدرات، وهي خارج حدود الزمان والمكان، وهي خير مطلق وحق مطلق وجمال مطلق، وقل ما شئت فيما هو من أمر الله بحسب إيمان كل منا ومعرفته بالله تعالى وهي غاية مطلب كل سالك إلى الله.
الروح إذاً، هي تلك النفخة الربانية التي نفخ بها المولى سبحانه وتعالى في ذلك الكائن الفخاري الذي صنعه بيديه من طين الأرض فمنحته تلك النفخة الحياة، كما جاء بالآيات الكريمة من سورة الحجر ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ))، ويبدو لى أن تشريف الله تعالى لذلك المخلوق بأن يخلقه ويسويه بيديه ثم يمنحه تلك النفخة الإلهية هي خاصية تفرد بها ذلك المخلوق المسمى بالإنسان، وإلا فما سر أمره تعالى للملائكة بالسجود إليه، وما سر غيرة إبليس منه واستكباره عن الامتثال لأمر الله بالسجود.
تلك الروح التي هي “سر الله فى الإنسان” هي التي منحته الإرادة، ومنحته ملكة الخلق والإبداع، وأهلته ليُمنح لقب “خليفة الله” في الأرض ليقوم فيها بالعمران بموجب ما منحه الله تعالى إياه من خصائص استودعها نفخة الروح الأولى فانطلقت فى بني الإنسان منذ أبيهم آدم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وبموجب سر الروح في الإنسان تحققت كل المعجزات التي صنعها هذا الكائن على الأرض فى الفترة القصيرة التي قضاها على ظهرها، فما شأن عشرات الآلاف من السنين التي قضاها ذلك المخلوق على هذا الكوكب مقارنة بمئات الملايين من السنين التي يقاس بها عمر الكون.
ولم يكن للإنسان أن يصنع كل ذلك الإعجاز العلمي والفني والعمراني إلا كتجلي لتلك الطاقة الهائلة التي أودعها الله تعالى فيه، والتي تدفعه بقوة غير واعية ليصنع ويبتكر ويبدع ويؤلف ويبني ويغير من خصائص الأشياء ويعيد اكتشاف علاقات جديدة بينها، وكذلك تتجلى هذه النفخة الروحية في نزوع الإنسان نحو المُثل العليا والقيم الأخلاقية والجمالية، تتجلى كذلك في بحثه الدائم عن منبت الأشياء وجذور الأفكار وأصل الوجود، وفي نزعته للتفلسف والبحث الدءوب عن الحكمة والمعنى والجوهر، تتجلى في بحثه الحثيث عن خالقه وشعوره الدائم أنه لم يأت إلى هذا العالم عبثاً وأنه مرتبط بقوة ما وراء كل هذا الوجود.
ولأن الروح والجسد من طبيعتين مختلفتين لذلك ينشأ بينهما تنازع على امتلاك هذا الكيان، فالروح تشد الإنسان لأعلى والجسد يشده لأسفل، والدين من المفترض أنه يريد للإنسان أن يختار الروح التي تصعد به لأعلى، بينما الدنيا تريده دائماً منشغل بالمادة التي تثبت أقدامه على هذه الأرض. ونتاج هذا التنازع تظهر الأمراض النفسية والعضوية، والأزمات الاجتماعية والاقتصادية، والنزاعات العسكرية والسياسية. ولا خلاص للإنسان ولا راحة ولا نجاة إلا بالاستسلام إلى أشد القوتين، إما الروح وإما المادة. إلا أن الإنسان لا يشاهد فى الحقيقة إلا المادة ولا يعلم بالتجربة إلا عنها، ولا يدرك بالحواس إلا إياها، بينما لا سبيل له نحو التعرف على الروح بوسائل المعرفة التقليدية، بل إن انشغال الإنسان بالمادة وانغماسه فيها حجبه عن مشاهدة تجليات الروح.
وهنا تأتي مهمة الشيطان، أن يظل هذا الكائن الإنساني منشغل بالمادة ومحجوب بها عن اكتشاف مصدر قوته الحقيقي، ومنبع ملكاته وقدراته الخاصة، ومصدر تفرده واستحقاقه لمكانته التي وضعه الله تعالى فيها، ونجاح الشيطان في مهمته هو نجاحه في إغواء الإنسان لاستخدام ملكاته في أن يبني بنفسه جدراناً عالية من الماديات، ويصنع متاهات معقدة من الأشياء، وشباك سميكة من الأفكار، حتى يظل دائراً في فلكها متخبطاً فيها لا يستطيع الخروج ولا الفكاك منها, وكلما حاول الخروج التف الحبل حول عنقه أكثر وأكثر.
لذلك تأتي الاتجاهات الروحانية لتقاوم هذه النزعة المادية من خلال التهدئة من روع هذا الإنسان المتشكك المتخوف المتخبط فى متاهاته، ولتفهمه أن اتصاله بروحه لا يحتاج منه الحركة ولكنه يحتاج منه السكينة ، لا يحتاج منه العجلة والتوتر ولكن يحتاج الطمأنينة والتروي، لا يحتاج منه كثرة التفكير ولكنه يحتاج السيطرة على جموح الأفكار، لا يحتاج منه التشكك والارتياب ولكنه يحتاج إلى الإيمان واليقين.
تعلم الروحانية الإنسان أن اتصاله بروحه هو في حقيقته اتصال بمصدر هذه الروح وهو الخالق سبحانه وتعالى، وأن تعرفه على ما يمكنه أن يصنع بهذه الروح من معجزات هو بقدر تعرفه على الله تعالى وأسماءه وصفاته، وتجلي قدرات هذه الروح يكون بقدر تخليه عن كل تعلق قلبي بالماديات وبالأشياء، لذلك يرتقي الإنسان روحياً ويصير أكثر اتصالاً بروحه كلما مارس التأمّل والتعبّد والعطاء، وكلما تحلى بالتسامح والفضيلة والزهد، وكلما تحقق بالسكينة والصبر والامتنان.
ولأن الروح من أمر الله، فإن لها قدرة لا محدودة على الشفاء، وعلى حل الأزمات، وتحقيق المعجزات ، ومباركة الأعمال والأشياء، إذا ما استطاع الإنسان الصادق النقي أن يتصل بها، وتلك القدرات تتعدى أصحابها إلى أحبابهم والمحيطين بهم وربما إلى العالم من حولهم، فكم نحتاج لهؤلاء الصادقين الأنقياء لنستمد من طاقتهم الروحية، وكم نحتاج لمجاهدة ما يحجب وعينا ويشدنا إلى المادة، والاستسلام لما يجذبنا إلى مصادر قوتنا الروحية ويأخذ بنا إلى طريق الله.
Categories: أعمدة الرأى
Posted: 28 أكتوبر، 2019 17:45
احمد محمد مصطفى
Posted: 27 نوفمبر، 2019 13:02
WEA
Posted: 1 نوفمبر، 2019 08:43
Mona Shams Eldin
Posted: 27 نوفمبر، 2019 12:59
WEA