Menu

ماذا فعلت بهن الحروب !؟

بقلم : نيرة عبد الهادي

 قالت وَلَكِنَّنِي مَازِلْت طِفْلِه !
لِي شفتان تتقوّسان نَحْو الْأَسْفَل عِنْدَمَا أَشْعَر بالأسي ، اِبْتَعَد مَسَافَة كَافِيَةٌ عَنْ كُلِّ مِنْ يصيبونني  بِالْخِزْي وَالْخِذْلَان وَلَكِنِّي أُجْرِي فِي تِلْكَ اللَّحْظَةَ إِلَيْهِمْ حِينَ يَفْتَحُون لِي اذرعهم .
مَازِلْت مُتَمَسِّكَةٌ بحماقة الصِّغَار وسذاجتهم . . قَالَتْ ذَلِكَ ثُمَّ اِنْهَمَرَت فِي الْبُكَاءِ طَالَبَه مِنِّي تَدْوِين كُلِّ كَلِمَةٍ تُخْبِرُنِي بِهَا دُونَ تَعْدِيلِ الْمَعْنِيّ ، وَهَا أَنَا أَنْقُل لَكُم حَدِيثِهَا كَامِلًا دُونَ تَعْدِيلِ أَوْ نُقْصَانٍ .

(انا ابْنِه لِرَجُل برجوازي ، أَضَاع كُلّ مالديه قَبْلَ أَنْ تنجبني أمي  ، بِالْمُنَاسَبَة كَانَت أُمِّي فِي سِنِّ الثَّالِثَةَ عَشَرَ حِينَ انجبتني ، هِيَ مِمَّنْ شَرَّدَتْهُم الْحُرُوب والتهجير أَثْنَاء النكسة ، كَانَت ضَمِن مَجْمُوعِهِ مِنْ المهجرين الَّذِينَ مَضَوْا دُونَ أَنْ يَعْرِفُوا وِجْهَتَهُم ، رُبَّمَا كَانَتْ أُمِّي أَكْثَرُهُم حَظًّا وَرُبَّمَا لَا ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تُخْبِرُنِي ذَلِكَ كُلَّمَا نَظَرَتْ فِي عَيْنَاي (تمسك وَجْهِي بِيَدِهَا بِلُطْف وتقبلني فِي غُرَّتِي وتخبرني وَهِي تتنهد بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ، أَنْت حَظِّي السَّعِيد فِي تِلْكَ الْحَيَاة )  .
مِسْكِينَة : لَم يتقبلها أَحَدٌ لِمُجَرَّد أَنَّهَا لَا تُعْرَفُ أَيْن عائلتها  ، عَائِلَة أَبِي كَانُوا دَائِمِيٌّ الشِّجَار مَعَهَا وَمَعَه ، كَثِيرًا مَا كُنْت أَسْمَعَهُم يلفظون كَلِمَات تُؤْذِي أُمِّي ، كُنْت مَازِلْت صَغِيرَة حِينَ ذَاكَ ، لَمْ أَكُنْ تَعَدَّيْت الْخَامِسَةُ بَعْدَ وَلَكِنَّنِي مَازِلْت أَتَذْكُر انْزِوَاء أُمِّي فِي ذَلِكَ الرُّكْنِ الْمُظْلِم وَيَدَيْهَا الْمُلْتَفَّة حَوْلِي بِقُوَّة وَكَأَنَّهَا خائفة أَن ينتزعوني مِنْهَا لِلْأَبَد .
مَازِلْت اسْتَمَع لشنهفاتها الَّتِي كَانَتْ تُخِيفنِي مِنْ شَيْءٍ لَا أَعْرِفُ مَاهِيَّتِه ، الْآن عَرَفْت مَعْنِيٌّ الْمِثْل الشَّعْبِيّ (الزن عالودان أَصْعَبُ مِنْ السحر) ، عَرَفْت ذَلِكَ الْآنَ بَعْدَ أَنْ تَجَاوَزَت الْحَيَاة وَرَفَضْت أَن تتجاوزني ، وَكَأَنَّهَا كَانَت تُرِي قُوَّتِهَا بصمودي واصراري عَلِيّ وُجُودِيٌّ فِيهَا .
 إستوقفتها لِلَحْظِه وَقُدِّمَت لَهَا الْقَلِيلِ مِنْ الْمَاءِ لتهدأ ثُمَّ طَلَبَتْ مِنْهَا أَنَّ تَرْتَاحَ قَلِيلًا ثُمَّ نُكْمِل حَدِيثَنَا ، اِرْتَشَفْت الْكَثِيرِ مِنْ الْمَاءِ وَأَسْنَدْت رَأْسِهَا لِلْخُلْف وَأُخِذَت تَحْلِق فِي بَيَاضِ سَقْف الغُرْفَة وَجُدْرَانِهَا وَكَان الْبَيَاض يَذْكُرْهَا بِشَيْءٍ مَا يُؤْلِمُهَا ، حَاوَلَت إخْرَاجُهَا مِنْ شرودها خَوْفًا عَلَيْهَا ، أَعْلَم جَيِّدًا غُصَّة الشُّعُور بِالظُّلْم حِين تَتَوَسَّط الْقَلْب : أَخْبَرَتْهَا (تلك فَلْسَفَة الْحَيَاة ، مُسْتَنْقَعٍ مِنْ الْقِرْفِ مُجْبَرَة عَلِيّ تَخْطِئَة أَو الغَوْصِ فِيهِ ) .

عُدْنَا . . . .

أَذْكُرُ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي اسْتَيْقَظَت فِيهِ عَلِيُّ صَوْت شِجار هَادِيًا أَقْرَبُ مَا يَكُونُ للهمس الْعَنِيفِ بَيْنَ أُمِّي وَرَجُلٌ يَقِفُ عِنْدَ الْبَابِ بالخارخ ، عَرَفْت بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ ابْنُ شَقِيق وَالِدِي وَلَا أَعْرِفُ لَم يتشاجر مَع أُمِّي مُحَاوِلا اقناعها بِالدُّخُول وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ أَبِي لَيْسَ بِالْمَنْزِل !

لَمْ تَسْمَحْ أُمِّي لَهُ بِالدُّخُولِ فَأَبِي مُعْتَاد عَلَيَّ الْعَمَلُ لِئَلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْأُسْبُوعِ وَالْجَمِيعُ فِي العَائِلَة يَعْرِفُون ذَلِك .

بالمناسبة  : عَائِلَة وَالِدِي ريفية يَعْمَلُون بِتِجَارَة (المواشي)سمعت ذَلِك الْمُصْطَلَح مِنْ أُمِّيٍّ إنْ ذَاكَ ، وَلَكِنّ أَبِي شَذَّ عَنْ قَاعِدَتَهُم جَمِيعًا ، أَذْكُرْ أَنَّهُ كَانَ لَهُ خَطّ رائع  وأسلوب مُنَمَّق فِي الْحَدِيثِ ، أَذْكُر أَيْضًا زُجَاجَة العِطْر الصَّغِيرَة الَّذِي كَانَ يُعْطِيهَا لِأُمِّي عَلِيّ فَتَرَات ، رَأَيْته يداعبها كَثِيرًا ، أَظُنُّ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّهَا ، وَلَكِنْ مَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ أَعَادَ ظَنِّيٌّ لحيث أُتِي . .

#يتبع

Categories:   أعمدة الرأى

Comments