مات مبارك ولم تمت السلحفاة
بقلم: طارق أحمد مصطفى
على مواقع التواصل الاجتماعي جدلٌ كبير، أثاره موت الرئيس الأسبق حسني مبارك منذ أيام، ولم يكن الجدل عائداً إلى اختلاف الآراء حول مبارك كرئيس مصري سابق بقدر ما كان جدلاً متجدداً حول ثورة 25 يناير 2011 التي قامت عليه، بين ناقمين على هذه الثورة رافضين لها، واصمين إياها بشبهة المؤامرة، متحفظين على استغلال البعض لهذه الأحداث لإهانة تاريخ مبارك الوطني والعسكري إلى حد رفضهم طلب الرحمة له بعد موته، وبين منتمين لثورة يناير مؤمنين بها غيورين عليها، رافضين لحالة الإنكار الرسمي والشعبي المتزايد لها، ومن ثم فقد أثار حفيظتهم أن يهرع الكثيرون بعد إعلان وفاة الرئيس الأسبق لإبداء الحزن بشكل مبالغ فيه ويدبجون التعازي المضمخة بأرفع الأوصاف فى حقه بينما هم فى الحقيقة يعلنون بهذه الأحزان والتعازي الحارة عن تبرؤهم من يناير أو يستغلون الفرصة لتجديد التهكم عليها والنيل منها.
وكطبيعة أي جدل تتوزع الآراء فيه على مقياس الاعتدال بين أقصى جهتي التطرف وبين تنوع آراء تقترب أو تبتعد عن نقطة الوسط. وبالنسبة لى فقد علقت على الخبر على صفحتي على الفيسبوك بطلب الرحمة له على المستوى الإنساني رافضاً المبالغة التي يستدرج إليها البعض عاطفياً في مثل هذه المناسبات، وعلى الرغم من رفضي واستنكاري لهذه المبالغة في الحزن إلا أنني كنت متفهماً لها ومتوقعاً أن تعود الأمور للتوازن بعد حين حيث أن القضية لا زالت بين يدي التاريخ، ومبارك نفسه قد قال ذلك في آخر كلماته حيث قال : “وسيحكم التاريخ بما لنا أو علينا”.
ولا يمكن اعتبار مشهد التشييع والعزاء لمبارك التي أثارت حفيظة البعض وثناء البعض، هي كلمة التاريخ الختامية في حقه. فقد مات جمال عبد الناصر من قبل وهو فى السلطة وشُيع جثمانه فى مشهد شعبي ورسمي مهيب إلا أن هذا لم يمنع الآراء والأقلام والحوارات أن تتكلم فى عصره وقراراته وسياسته فى الحكم حتى هذه اللحظة بكل ما يمكن أن يقال من المدح والقدح، وكذلك أُغتيل أنور السادات وهو في السلطة وهو بين جنوده وحصل على عزاء رسمي مميز بينما عرفت مما حُكي لى أنه كان هناك ارتياح شعبي لوفاته وصل ببعض المواطنين العاديين في بعض الأحياء إلى توزيع الحلوى فرحاً بموته، بينما بعد سنوات من وفاته نجد قطاعاً كبيراً من الرأي العام الذي لامه من قبل على عقد السلام مع إسرائيل رغم انتصارنا فى الحرب نجده يعيد النظر فى الأمر وفق معطيات الواقع العربي ويخفض من حدة تحفظه على الرجل ويصفه بعضهم أنه كان الأبعد نظراً في ذلك الوقت المبكر.
ولا يجب أن نتصور أن ردود الأفعال على موت مبارك أو أي زعيم سياسي أو شخصية عامة إنما يحركه دوافع موضوعية، فهناك دفعة كبيرة من “النوستالجيا” تدفقت إلى مشاعر الجميع عندما اعادنا هذا الخبر إلى سنوات الثمانينات والتسعينات وبداية الألفية وحتى إلى فترة 2011 وما بعدها. فالموت دائماً ما يحرك الحنين إلى الماضي والندم على ما فات والأسى على الحال والاعتبار بالأحداث، وليس كل الناس لديهم من النضج ما يجعلهم قادرين على التوازن مع هذه الدفقة القوية من “النوستالجيا”، فلا المتمنين الجحيم لمبارك يعنون حقاً ما يقولون ولكنهم يعلنون بهذا التمني سخطهم على كل ما كان يمثله مبارك وفترة حكمه من فساد وإفساد وركود وقتل للحياة السياسية وتأكيد للتمايز الطبقي وتزاوج للسلطة ورأس المال وتبعية للغرب وتفشي المحسوبية والشللية وتجبر أصحاب النفوذ وخروج أداء أجهزة الأمن من تحت سلطة الرقابة الشعبية والقضائية. وكذلك من نمّقوا العبارات فى عزاء مبارك وتكريمه ربما لا يعنون حقاً ما يقولون ولكن لعلهم يعلنون بذلك أسفهم على فترة من حياتهم كانوا فيها أقل قلقاً على المستقبل وأكثر إقبالاً على الحياة ويعتذرون لأنفسهم عن تفاؤلهم المبالغ فيه بأن مصر ستكون أفضل حالاً بدون مبارك بعدما أثبتت الأيام أن أمر مبارك أهون كثيراً من ذلك، فأشفقوا على الرجل الذي أريد له أن يتحمل وحده عار شعب كامل.
كان المصريون بسخريتهم المعهودة كلما تقدم العمر بمبارك وهو بكامل لياقته وتمتعه بأرقى الرعاية الصحية التي لا يحلمون بها يتسائلون ألن يموت هذا الرجل ؟!، وقد انتجت الثقافة الشعبية تجليات كثيرة لهذا التساؤل الساخر لعل من أشهرها تلك النكتة التي ظهرت فى أواخر عهد مبارك وتقول: أن أحدهم أهدى لمبارك سلحفاة صغيرة وقال له أن هذه سلحفاة من النوع النادر الذي يعيش حتى يتجاوز عمره الخمسمائة عام، وهنا نظر مبارك بطريقته المشهورة فى التعجب وقال: لمّا نشوف، وكأنه يعلن أنه لا ينوي الموت حتى يرى كم سيبلغ حقاً عمر هذه السلحفاة. ورغم الطرافة الشديدة لهذه النكتة التي لا زالت قادرة على إضحاكي حتى هذه اللحظة، إلا أنها تحمل فى طياتها إشارة إلى أي مدى وصل شعور المصريين باليأس من إمكانية حدوث التغيير في تلك الفترة، حتى تصوروا أنه لن يحدث إلا بموت الرئيس الذي أصاب حياتهم بالفتور والخمول والركود، وهو أمر بدا لهم وقتها بعيد المنال.
كان المصريون قبل 25 يناير فاقدين للثقة فى أنفسهم وفي قدرتهم على الفعل والتغيير والتأثير في الشأن العام، وكأن هذ الشأن العام ليس من شأنهم، وأن هناك طبقة مخصوصة مغلقة على نفسها هي فقط المعنية بهذه الشئون، بينما هم يوصمون على لسان بعض أعضاء هذه الطبقة بأنهم غير مؤهلين للديمقراطية، لذلك كان فزع المصريون عندما انطلقت الثورة كبيراً، هذا الفزع دفع البعض للهجوم عليها على اعتبار أن هذا الذي يحدث هو خلل ضد طبائع الأشياء، ودفع آخرين للجلوس على “الكنبة” لانتظار ما ستئول إليه الأحداث فينحازون للطرف المنتصر، بينما دفع آخرين للنزول للميادين للاحتماء ببعضهم البعض أمام بطش نظام قوي ولكنه جريح، يريد أن يفرق كلمتهم ويشيع عدم الثقة فيما بينهم حتي يصيدهم أفراداً متفرقين ولكنه سيلحق بنفسه العار إن قرر أن يواجههم مجتمعين. وجاءت المفارقة العجيبة أن جميع هؤلاء قد اجتمعوا على الفرح يوم تنحي مبارك غير مصدقين أنفسهم أنهم قد فعلوها، فكانت الفرحة العارمة فى الشوارع ليلة 11 فبراير 2011 هي فرحة بالخلاص وفرحة بإثبات الذات وبتأكيد القدرة على الفعل، وهو ما ظهر فى الأعوام التالية للثورة فى الكم الهائل من الحراك الشعبي والمبادرات والائتلافات التي تسعى جميعها لملئ الفرغ الذي تركه حسني مبارك وحزبه ونظامه.
ورغم الفرح العارم يوم التنحي إلا أن تجربة هذه السنوات بكل آمالها وآلامها أثبتت للمصريين أن حجم التباين فيما بينهم كان أكبر مما تصوروا، وأنهم فيما يبدو لم يكونوا يعرفون بعضهم بعضاً على الحقيقة، وأنهم فيما يبدو لم يكونوا مؤهلين حقاً – ليس للديمقراطية – ولكن لتحمل مسئولية إدارة شئون حياتهم التي كان غيرهم رغم كل شيئ يكفيهم مأونتها. نضج هذا الجيل من المصريين كثيراً خلال هذه السنوات، وراجعوا ما فعلوه خلالها كما يراجع الشاب الكبير أفعاله فى زمن المراهقة، فيضحك منها أحياناً ويخجل منها أحياناً ويفتخر بها أحياناً ويتعلم منها فى جميع الأحيان. وكما هي عادة فترات المراهقة تكون الأحكام حادة وقاسية والتصرفات جريئة وطائشة، فتأتي مرحلة النضج بالتأني والحكمة ووضع الأمور في نصابها الصحيح كلٌ بحسب منظومة قيمه وترتيبات مصالحه.
وها قد مات مبارك رغم كل شيئ، مات كما يموت كل إنسان طال به العمر أم قصر، وهو قد مات بالفعل منذ سنوات فى وعي المصريين رغم بقاءه على قيد الحياة، فصار جزءاً من تاريخهم، بينما هو قد عاد لصفته الأولى كإنسان وفقط، وكمواطن عادي غير مؤثر فى الأحداث، لا يهمه إلا عائلته وما بقي من سمعته. مات بعد أن أمهله القدر – وأمهلنا معه – تسع سنوات كاملة بعد التنحي، شاهدنا خلالها حكمة المولى سبحانه وتعالى كيف يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، فيتوب من يتوب، ويراجع نفسه من يراجع، ويستعيد وعيه بذاته وبالعالم من يتأمل، ويُشفى من جراحه من يتسامح.
مات مبارك ولم تمت السلحفاة، التي تمثل هنا حياة هذا الشعب المصري الكبير العريق الضارب تاريخه فى جذور الماضي والممتد في غياهب المستقبل، ذلك الشعب الذي داست عليه المحن وعلمته التجارب وتناقلت حكمته الجينات جيلاً بعد جيل، وكما تزداد درقة السلحفاة متانة كلما تقدم بها العمر كذلك هذا الشعب المصري يزيده التاريخ صلابه وتبقى أحداث التاريخ الكبيرة مجرد خدوش دقيقة على درقته شاهدةً ودليلاً لمن أراد أن يعتبر.
Categories: أعمدة الرأى