Menu

الآراء تختلف .. لتأتلف

بقلم : محمد فضل فتح الباب

قليلٌ من الناس من يدرك أهمية تعدد الآراء حول أي موضوع مطروح للنقاش الجاد، حتى أصبح البعض يظن أن تباين الآراء مع ضرورة تقبل رأي الآخر هو أكبر الجرائم ، بالتالي ينبغي الوقوف بالمرصاد لأصحاب الآراء المغايرة بحزم شديد تحت دعوى شق الصف ؛ غير أن الواقع يسعفنا -من حين لآخر- بأشخاص يتقبلون الرأي الآخر بصدر رحبٍ، بل يعتقدون أن تقبل الرأي الآخر هو الطريق الصحيح السريع إلى الثراء الفكري و الذي يعد الدعامة الرئيسة لكل نهضة بالعالم.
إن ثقافة الاختلاف – لا الخلاف – ثقافة مهمة لبناء وتطوير أي كيانٍ يسعى أصحابه إلى أن يصبح قبلة للباحثين عن الأفكار الناضجة التي تعتبر حجر الأساس في التطوير والبناء ، في عصر بات يعاني نكوصاً و توجهاً نحو تكميم الأفواه وخنق الحريات ، إننا بدون ثقافة الإختلاف سنفقد تلك العقلية النقدية التي يمكنها المساهمة في النهوض بالدول والمجتمعات ، ينبغي الآن أن نفهم أن الحرص على إتاحة الفرصة للآخر للتعبير عن رأيه دون إصدار أحكام مسبقة ، قضية واجبة في شريعة التطور و التقدم ، لأن اختلافنا مع الآخرين فى زاويه التفكير لا ينبغي أن يكون بهدف وأْدِ آرائهم الشخصية في مهدها، لأن ذلك لا يمتُّ للوعي الحضاري بصلة، بل يمثل دعوة صريحة إلى نشر الإستبداد داخل المجتمعات لأنه يكرس لمجتمع الرأي الأوحد ؛ وهذا ما جعل المفكر الفرنسي “فولتير” يُعلن عن استعداده لدفع عمره من أجل أن يُعَبّر خصمه عن رأيه الشخصي ، فقال:”قد أختلف معك في الرأي ولكني أدفع عمري لتقول رأيك”.
إن هذه المقولة تدعونا إلى الخروج من مربّع الخلاف “العدواني” إلى الاختلاف المسؤول، كي ننشر ثقافة الرأي والرأي الآخر، دون احتقار رأي مهما كان مضمونه، من أجل الاستفادة من مختلف العقول ، فكل الآراء يؤخذ منها و يرد عليها فيما عدا صاحب المقام المعصوم المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فلا ينبغي لنا أن نحكم على رأي بالإعدامِ أو بالعصمة.
إن ثقافة الاختلاف هي التي تجعل الإنسان يستطيع أن يستمع إلى كل الآراء المطروحة، من أجل عرضها على عقله للتمييز بين الصالح والطالح، وتقديم أفكار طموحة قادرة على انتشالنا من دركِ الخلاف المؤدي إلى العدوانية، التي دائما ما تُغيِّب أفكارا إيجابية تخدمُ مصلحة الشعوب في الحاضر والمستقبل.
لقد أفقنا من صدمة المراهقة الفكرية فجأة ونحن نردد: ”الخلاف لا يفسد للود قضية”. أعتقد أن هذه المقولة في الحقيقة لم تتجاوز حناجر الشعوب ، حيث ظل كل خلاف في مجتمعاتنا يؤدي إلى البغضاء والشحناء ،وخلق نظرية المؤامرة التى يعلق عليها عدم السماع للرأى الاخر ويفسد كل القضايا السياسية والعلاقات الاجتماعية.
فالشيخ المسنُّ مثلاً لا يقبل من الشاب المثقف الذي يصغره سناً أن يخالفه في قضية رأي ، والسبب أن الشيخ يرى أن التعبير عن الآراء أمرٌ يحتاج إلى عدد معين من السنين متغافلاً عن مستوى النضج و الوعي بخلفيات الأمور، و هذا مجاف للواقع، فالخلاف في الرأي يعني أن هناك شخص له وجهة نظر، وهناك آخر له وجهة نظر قد تكون مغايرة، فنحن لا يمكننا أن نتفق في كل شيء، كما لا يمكننا أن نحيط بكل تفاصيل أحداث الكون:
(والعلم ذو كثرة في الصحف منتشرٌ ***
وأنت يا خِلُّ لم تستكمل الصحفا)
ثم إن تعدد الآراء لا يعني مثلا أن صاحب الرأي الأول مخطئ ، والثاني مصيب، لكنه يعكس مدى قدرة العقول على توليد الآراء و إستنباط الحقائق ثم التعبير عنها من خلال وجهات نظر مختلفة ، وهذه مرحلة جيدة من النضج نحتاج أن نصل إليها. (أختلفُ معكَ لكني أحبك) : فالاختلاف في الرأي سمة العقول الناضجة، ودليلٌ على ثراء وخصوبة وفهم للقضايا المطروحة..
أعتقد أن التاريخ الإسلامي مليء بالنماذج الشاهدة على الإختلاف في قضايا متعلقة بالعبادات ، ناهيك عن قضايا الاجتماعات والقرارات، و بالتالي يفترض أن يكون المسلمون أكثر تقبلاً للنقد وتعدد الآراء ، وأن تظل تصرفاتهم تمثل دستورا حقيقيا ينهض على مبدأ الشورى ؛ إن أكبر دليل على وجود ثقافة الاختلاف في الإسلام، هو قضية بني قريظة المشهورة: “لا يصليَنَّ أحدكم الظهر-وفي رواية العصر- إلا في بني قريظة”. فهذا الأمر النبوي أختلف الصحابة في تفسيره، لكن هذا الإختلاف لم يصل بهم إلى درجة الشحناء، بل ظل كل يحترم للآخر رأيه ، ويقدر إجتهاده ؛ ومن الأدلة أيضا على ذلك إختلاف (بن عمر و بن عباس) في تقييم الأحكام الشرعية، حيث كان بن عمر يتشدد في الأحكام، بينما ظل بن عباس على العكس من ذلك. ثم إن الفقه الإسلامي مليء باختلاف الفقهاء حول الكثير من القضايا الشرعية ، لكنه إختلاف تنوع لا تضاد ، لأن فهم إمام لقضية شرعية معينة قد يختلف مع فهم إمام آخر و كذلك يختلف بإختلاف الأزمان و الأحوال ، لكن كل منهما يكمل الآخر. وقد صدق الشاعر العربي حين قال:
(قل للذي يدعي علما ومعرفة ***
علمت شيئا وغابت عنك أشياءُ)
أختم هنا بسؤال أتمنى أن يجد إجابات عملية جادة، تسهم في نشر ثقافة الإختلاف بين أفراد مجتمعاتنا، السؤال هو: إذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أستطاعوا تجسيد ثقافة الإختلاف في حياتهم، ومن بعدهم أختلف الأئمة والعلماء في تحليل قضايا شرعية حسّاسة، فمن أين أتينا نحن بثقافة الخلاف “العدواني”، ولماذا وضعناها مكان ثقافة الاختلاف
.. من المسؤول؟
أهو العقل أم القلب أم الأفئدة ..؟
فالبشر كلهم يمتلكون جميع الأعضاء البشرية فى الخلقة فسبحان الله خلقنا و أحسن تصويرنا فسبحان الله وتعالى
ماوسعنى أرضى ولا سمائي ولكن وسعنى قلب عبدى المؤمن من سبح في ملكوته إطلع ومن اطلع عَلِمْ اللهم كما أحسنت تصويرنا أحسن اللهم أخلاقنا و آلف بين قلوبنا و وحد كلمتنا لكى نتقي فنرتقي.

Categories:   أعمدة الرأى

Comments