كتالوج شندلر . . عندما يحتفي الأدب بمعاناة العمال
بقلم/ طارق أحمد مصطفى
يتعجب صديقي الأديب اللامع عمرو العادلي – الحائزعلى جائزة الدولة التشجيعية – كلما وجدني احتفي كثيراً بروايته ” كتالوج شاندلر” الصادرة عن دار نهضة مصر أكثر من باقي أعماله، وأضعها على رأس هذه الأعمال التى تعدت العشرة إصدارات ما بين رواية ومجموعة قصصية، بل أصنفها ضمن أهم عشرة روايات مصرية صدرت فى السنوات السبع الأخيرة. ولكنه يرجح أن ذلك بسبب الأجواء “العمالية” للرواية وهو يعلم عملى في الأساس مع الوسط العمالي والنقابي. وربما هذا ليس بعيداً عن الحقيقة، فقد كنت خلال عملي لسنوات في تنمية وعي العمال وتدريبهم وتثقيفهم والبحث في قضاياهم ومعايشة معاناتهم، اتسائل لماذا لا يلتفت كتاب الأدب كثيراً لهذا الميدان الخصب المليئ بالمفارقات والتحولات والدراما والشخصيات الثرية المفعمة بالحياة والحركة، كيف لا ينقلون الأدب لمعايشة حياة الناس ويجتذبون من خلاله شرائح جديدة من القراء من خارج شرائح قراء الأدب التقليديين، من الشباب الجامعي ومثقفي وسط البلد.
ولكن للحق فإن سعادتي واحتفائي بهذه الرواية راجع فى الأساس لمحبتي للأدب، فقد وجدت فيها ضالتي حول ما يعنيه الأدب والرواية تحديداً بالنسبة لي، ألا وهو الاحتفاء بالإنسان، واستخراج جماليات عديدة من وسط التفاصيل التى ربما لا توحي لأول وهلة بوجود كل هذا الجمال خلفها. وربما لا أكون مبالغاً إذا وصفت هذا العمل الروائى بأنه عمل فذ، بل هو من فرط المجهود المبذول في كتابته يكاد يكون دراسة أنثروبولوجية لأحوال الإنسان المصرى المطحون المهمش، وهو هنا ذلك العامل والموظف البسيط الذى يظل يعمل لسنوات وسط العفن الإدارى لشركة من شركات القطاع العام (وهي هنا شركة شندلر للمصاعد) فيفقد مع الوقت آدميته وتفرده ويتحول إلى ترس صدئ فى آلة خربة، ولكن عمرو العادلى هنا يقوم بتفكيك هذه الآلة، وبصبر الروائى يزيل الصدأ عن هذه التروس ترساً ترساً لتظهر ملامحها الحقيقية المشبعة بالدلالة والتى كانت مختفية تحت طبقات الصدأ والزحام والبلادة.
استطاع عمرو العادلى نحت شخصياته بمنتهى الإخلاص والصبر حتى تكاد تراها تتحرك أمامك تشاهدها وتسمعها وتشم رائحتها، وترفعك دقة التفاصيل وغناها إلى مستوى أعمق من مجرد محاكمتها أو التعاطف معها. كل شخصية أو ترس من تروس آلة هذه الشركة هو عالم كامل من الشقاء بكل ما تعنيه هذه الكلمة.
ربما لن تجد هذه الرواية حظها عند القارئ العربى أو الأجنبى نظراً للغة التى اختار عمرو أن يكتب بها والتى هى مصرية صميمة رغم أن الرواية غير مكتوبة بالعامية ولكنه أغرقها بالمصطلحات الفنية العامية الشائعة بين عمال هذه الشركة وبين طوائف الحرفيين المصريين عموماً، تلك التى تحمل بداخلها دلالات كثيرة ستفقدها بالتأكيد فى حال الترجمة أو الاستبدال بالألفاظ المعجمية. هو هنا يحتفى بقاموس الحرفيين المصريين العريق الذى تشكل عبر السنين من ألفاظ قد يكون أصولها عربية أو إنجليزية أو تركية أو حتى هيلوغريفية .
هذه الرواية/الدراسة تبرز بمهارة تقاليد بيئة العمل التى أفرزتها تجربة القطاع العام فى مصر ووصمت بها طائفة الحرفيين المصريين الذين تربوا فى بيئة العشوائية الإدارية والمال السايب وغياب الأهداف التنظيمية. وهو عمل ربما يفيد الباحثين فى علم اجتماع التنظيم، فهو يملأ المساحات الفارغة التى لا يمكن للغة الأكاديمية ملأها، حيث يبث الروح ويضخ الدماء فى هذا الكيان التنظيمى الميت ويرصد عوامل تحلله الداخلى، ويبرز عمقه الإنسانى من خلال رصد المعاناة النفسية والاقتصادية للبشر الذين يتكون منهم هذا الكيان وربما أيضاً أزماتهم الوجودية التى تظهر كغلالة لطيفة تغلف حالة اللامبالة العامة التى تسود الجميع.
اتوقع أن يهتم النقاد كثيراً بهذا العمل المهم، فهو عمل أدبى حقيقى صادق غير مفتعل، وأتمنى أن يحصل على اهتمام كل المعنيين بالشأن العمالي من مدربين وباحثين ونقابيين، كما أتمنى قبل ذلك أن يحصل على اهتمام قارئه الحقيقى الذى كتب من أجله وهو الإنسان المصرى العادى البسيط المهمش المكدود من التعب بحثاً عن احتياجاته الأساسية فى الحياة، والذى يمثله أبطال هذه الرواية.
Categories: أدب ونقد