أن تكون صاحب ثوابت
بقلم: طارق أحمد مصطفى
أصحاب الثوابت فى زماننا هذا صاروا عملة نادرة. فأن تكون صاحب ثوابت فى هذا الزمن الذى اختلط فيه الحق بالباطل ، وتقلصت فيه مساحة الثوابت أمام مساحة المتغيرات ، وضاع فيه المعنى أمام سلطان اللحظة، واهتز عرش الكثير مما كنا نظنه حقاً وخيراً وجميلاً أمام الكثير مما كنا نظنه باطلاً وشراً وقبيحاً ، فهذا أمر من الصعوبة بمكان.
والصعوبة لا تكمن فقط فى مقدار ما تتمتع به من عزيمة على التمسك بثوابتك، ولكنها تكمن بشكل أكبر فى تحديد ماهية هذه الثوابت، وهل هى حقاً جديرة بأن تكون كذلك، وما هو معيارنا فى إدراك الثوابت وتعريفها، قبل أن نتورط فيما كنا نظنه حقيقياً وأصيلاً وجديراً بالثبوت عليه، ومن ثم نضيع الوقت والجهد، ونضيق على أنفسنا وعلى الآخرين بدون فائدة حقيقية، ونضيع – فى المقابل – علينا وعليهم فرصاً من الممكن أن تحقق لنا ولهم تقدماً ما، في مسار ما، قد يجعلنا أفضل مما نحن عليه.
والكثيرين ممن لديهم مساحة عريضة من الثوابت والمبادئ، قد تكونت لديهم تلك المساحة غالباً بموجب دوافع أخلاقية، فرضتها عليهم مواقف معينة فى لحظات معينة كانت تحتم عليهم الاختيار بين الخاص والعام فاختاروا العام، وبين الآنى والدائم فاختاروا الدائم، وبين المصطنع والحقيقى فاختاروا الحقيقى، فجاء اختيارهم أخلاقياً نبيلاً نابعاً من إيمان عميق بقوة الحق وعدالة التاريخ. وقد منح هذا الاختيار لأصحابه الإحساس بنشوة الانتصار على النفس أولاً وعلى قوى الشر ثانياً.
ولكن ما يحدث غالباً، أنه مع الوقت، تكتسبت هذه المواقف الأخلاقية صفة المطلق، وتتحول تلك النشوة القديمة لدى أصحابها إلى لذة مطلقة، فيعتنقوا تلك القيم والأفكار والمفاهيم ويحولوها إلى أيديولوجيا خاصة بهم، تمثل جزءً من كرامتهم وهويتهم الشخصية، ومن ثم فإن التخلى عنها يصير هو التخلى عن الكرامة، ومسها بالنقاش أو الفحص أو حتى مجرد الرصد يصير انتهاكاً للهوية. وتتحولت – من ثم – نظرتهم إلى العالم الذى يتغير بسرعة وتتبدل فيه المواقف يوماً بعد يوم وكأنه سفينة توشك على الغرق وعليهم أن يتشبثوا بحطام تلك السفينة حتى الرمق الأخير، لذلك فإن عزيمتهم على التشبث تصير نابعة من غريزة حب البقاء. فإذا أضفت البعد الجمعى والبعد الزمنى إلى هذه المنظومة الثوابتية العقائدية الأيديولوجية، ستصبح الصورة أكثر تعقيداً وأكثر عصياناً على التفكيك.
ستجد أمثال هؤلاء فى الدين، فى أولئك الذين يتعاملون مع آراءهم الفقهية التى تقبل الاجتهاد والاختلاف وكأنها جزء من العقيدة الدينية، ويعاملون الاختلاف الفكري معاملة الخلل السلوكى الذى يحتاج إلى تقويم. فهم إما يعلنون الحرب على مخالفيهم، أو يجتهدون فى وعظهم على اعتبار أنهم ضالون يحتاجون لمن يرشدهم للطريق الصحيح، أو يكتفون بأضعف الإيمان إذ ينظرون لهم نظرة الأسى والأسف.
وستجد أمثالهم كذلك فى السياسة، فى أولئك الذين لم يخرجوا بعد من انفعالات مواقفهم السياسية والقومية القديمة، ويعتبرون أن كل ما تحقق من انجازات سابقة هى مكتسبات ضحت الأجيال السابقة من أجل تأكيدها، ومن ثم فليس من المقبول لديهم أن تخضع أى منها للمراجعة، فمجرد مراجعة هذه الثوابت تمثل لديهم تنازلاً غير مقبول حتى ولو تحت ضغط متغيرات الواقع. لذلك نلاحظ كيف تبدلت المواقع ما بين ما كان يطلق عليهم رجعيون ومن كان يطلق عليهم تقدميون، فصار الآن هؤلاء هم التقدميون وأولئك هم الرجعيون.
وستجد أمثال هؤلاء أيضاً على المستوى الاجتماعى داخل الأسر والعائلات فيمن يصرون على مظاهر وتقاليد اجتماعية معينة رغم أنها تشكل عبئاً على حياة أفرادها فى ظل واقع اقتصادى واجتماعى جديد سريع التحول. وستجد أمثالهم حتى فى الأوساط الرياضية والفنية والعمالية، ستجدهم فى المدن والريف والبادية، ستجدهم فى كل مكان حولنا، يلهبون حماس الناس بتمسكهم بثوابتهم وهويتهم ومكتسباتهم، ويتصدرون المشهد بإعلاءهم راية الصمود فى وجه الجديد، ومن ثم يزيدون الأمر تعقيداً مع مرور الزمن وتتابع الأجيال.
لم يدرك هؤلاء، أنهم كلما وسعوا من قاعدة ثوابتهم ومبادئهم كلما زادوا فى المقابل من قضبان السجن الذى يسجنون فيه أنفسهم ومجتمعاتهم، وكلما عمقوا من خصامهم مع الواقع ومع المستقبل ومع سنن التغيير والتطور فى الكون. فإن تنامى الالتزام الثوابتى يستدرج أصحابه للمزايدة فى خطاب التعصب والشوفينية، ويعمق لديهم ولدى أنصارهم مشاعر كراهية الآخر والشك فى نواياه وفى جدارة أفكاره بالبحث والتحليل الموضوعى، وذلك هو المناخ الخصب لإنتاج النظم المستبدة، التى تسرف فى توسيع قاعدة الخصام والعداوة مع المخالفين، وفى ممارسة القهر والإقصاء للمعارضين.
ولا أفضل من أن ننهى كلامنا بقاعدة جامعة وضعها النبى صلى الله عليه وسلم لحماية أتباع دينه من الانسياق وراء شهوة المزايدة فى تحصين الهوية وتوسيع رقعة الثوابت التى ما أنزل الله بها من سلطان، عندما جاءه أحد الصحابة وسأله: يا رسول الله، قل لى فى الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، فلم يكثر عليه من النصائح المطولة والاستطراد في التفاصيل، ولكنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بأن قال له: “قل آمنت بالله، ثم استقم”
Categories: أعمدة الرأى, كلمة و مقال