لطائف بلاغية
بقلم د. أحمد فتحي الحياني
أستاذ بكلية الآداب
جامعة الموصل
” …وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ” العنكبوت/ ٣٨ .
هذه الجملةُ من آيةٍ معطوفةٍ على ماقبلها من إهلاك الظالمين ، تُبيِّنُ حالَ الأقوامِ الغابرةِ ممَّن أهلكهم اللهُ بذنوبهم .
فقصَّ علينا أخبارَهم ومصارعَهم ل (العبرة والاتعاظ ) بحالهم مثل :
عادٌ وثمودُ وأصحابُ مدينَ وقارونَ وفرعونَ وهامانَ الذين زَيَّن لهم الشيطانُ أعمالَهم القبيحةَ فَحَسَّنَها لهم وجَمَّلَها فصدَّهم عن السبيل : ( سبيل الحق ) وهو سبيل الله :
” وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ ” .
ومُستَبصِرين : جمع مُستَبْصِر . من الاستبصار ، والاستبصارُ من البصيرة ، والبصيرة هي : قوةُ القلبِ المدركةُ للأمور . وجمعها : بصائر . مثلما يُقال :
البَصَرُ للعين لقوة النظر فيها وجمعها أبصار . يقال : البصيرةُ لقوة الإدراك في القلوب . فللقلب بصيرةٌ ، كما للعَين بصرٌ .
فأولئك الأقوامُ كانوا أصحابَ بصارةٍ بالأمورِ وعقولٍ ، وازدادوا بصيرةً بالحقِّ بواسطة الرُّسُل – عليهم السلام – لذلك جاءت الصيغةُ متناسبةً بلاغيًا في بيان حالهم : ( مُستَبصِرين ) بأنهم على وجه التأكيد كانوا أهل بصائر وعقول بدلالة : ( السين والتاء ) لحقتا اسم الفاعل مُبصِرينَ للتأكيد والمبالغة في التبصُّر والتعقُّل .
لذلك لم يكن لهم (حُجَّةٌ على الله ولاعُذْرٌ ) في صَدِّ الشيطانِ لهم عن سبيل الحق الذي دعتهم إليه رسلُهُم – عليهم الصلاة والسلام – ، وهو سبيلُ اللهِ الذي ارتضاه لهم يُوصِلُهم إليه – سبحانه – ، لأنّ اللهَ هو أوصى به ودعاهم إليه ، وفيه نجاتُهم وفوزُهم في الدنيا ، وفوزُهُم الأكبرُ بسعادةِ الآخرةِ الأبدية .
ولاحُجَّة للكافرين والملحدين ولاعُذرٌ لهم في كلِّ زمان ومكان كأسلافهم ، فقد وهبَهم اللهُ مثلَهُم القوةَ في البصيرة والاستبصار والإدراك بما بين أيديهم ، وهو الذي جاء به خاتمُ الأنبياء والمرسلين – عليه الصلاة والسلام – من الدلائلِ الحقَّةِ القاطعةِ في هدايتها إلى الحقِّ ، والسبيلِ الحقِّ ، فأدركوا ببصائرهم واستَيقَنوا ، ولكنَّهم لم يهتدوا بل جَحَدوا ظلما وتكبُّرا وعلوًّا .
وفرقٌ كبيرٌ بين إدراك الأمور والعلم بها والتبصُّر ، وبين الإيمان بها وقبولها والإذعان لها بعد التبصُّر ثم الاهتداء بها .
فهؤلاء كأسلافهم أدركوها ، ولكنّهم لم يهتدوا بها بسبب اتِّباعِهم الشيطانَ المُسَلَّط عليهم الذي زيَّن لهم الكفرَ والإلحادَ والعصيانَ فَعَمُوا وصَمُّوا وبَعدوا عن الحقِّ والهدايةِ كما بَعِدتْ عادٌ وثمودُ ومَدْيَنَ وأضرابُهم .
Categories: الإعجاز فى القرأن و السنة