لطائف بلاغية
بقلم : أ.د. أحمد فتحي الحياني
” …لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ” الأعراف/ ١٦ .
من الكنايات القرآنية البديعة في تصويرها لما هو خفيٌّ عن الإنسان ليأخذَ حِذرَه فلايغفل عنه ، تصوير إبليس الرجيم في كيده وإغوائه لبني آدم في صورة تمثيلية حسية قريبة إلى أذهان الناس ونفوسهم .
فإبليس هو الداعية الأكبر للضلالة والكفر والفساد تمخَّض للشرِّ فلايصدر عنه إلا الشَّر ، وأقسَمَ بعزَّةِ الله على إغواء بني آدم بالقعود على صراط الله المستقيم يصدُّهم عنه :
” لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطِكَ المُسْتَقِيم ” اللام لام القسم لتوكيد خبره بالقعود ، ثم أكَّد قعوده هذا بنون التوكيد الثقيلة : ( لَأَقْعُدَنَّ ) على هذا الصراط لايفتر عنه .
والقعود كناية عن صفة ملازمة ابليس هذا الطريق كلَّه ملازمة مستمرة ليقطعه على السالكين ويمنعهم منه بشتى الوسائل الشيطانية بالوسوسة إلى عقول الناس ونفوسهم وتزيين كل أعمالهم السيِّئة لهم بأنها حسنةٌ ، صوَّره بالقعود على الصراط المستقيم . والصراط المستقيم : هو الطريق الواسع المستقيم الذي لا عوج له المُوصِلُ إلى الله بدلالة الإضافة إليه – سبحانه — (صراطك ) أي : الصراط الحق الذي وضعه الله وارتضاه لعباده يصلون به إليه .
فالكناية تصوير للشيطان ب : (قاطع طريق ) يمنع الناس العازمين السلوك فيه ، لذلك تحذِّرهم الآية بالتصوير الكنائي منه أشدَّ التحذير من وسائل إغوائه حتى لا يغفلوا عنه .
” لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ…ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيْهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِريْنَ ” الأعراف/ ١٦ – ١٧ .
ثم يتصاعد المعنى خطورة في رتبته وبيانه في إغواء إبليس — لعنه الله – لبني آدم وإضلالهم عن الصراط المستقيم بدلالة ( ثُمَّ ) التي أفادت معنى الرتبة ، أي الهجوم عليهم لإغوائهم بعد ترصدِّهم على الصراط .
وقد حرص القرآنُ على بيان أساليب إبليس الشيطانية بطريق التمثيل الحسي للكشف عنها بما تعارف عليه الناس في محاولاتهم بإيقاع عدوهم من خلال إتيانه من الجهة التي هو غافل عنها ، أو عن طريق المواجهة ، أو عن طريق الغدر ، أو يُؤتى حسب الطريقة التي تُوقِع به .
” ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِم ” فهو يبتدِئُ الهجومَ على بني آدم بدلالة (من ) للابتداء من بين أيديهم مواجهة تهجُّم القويِّ غير الخائف الحريصِ الشديدِ الحِرصِ على إغوائهم .
أو يبتدِئُ من خلفهم غَدرا للإيقاع بهم . أو يستعمل أسلوبَ التوسُّلِ بالتجاوز بطريق الحيلة والمخاتلة لإغوائهم وإضلالهم عن الأَيْمان والشمائل : ” وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ” بدلالة حرف المجاوزة ( عن ) .
بدلالة حرف المجاوزة ( عن ) . أي : يتجاوز الجهتين الأوليين الغالبتَين في الهجوم إلى هاتين الجهتين بخفاء المترصِّد المختفي لعدوه .
وهكذا هو مطبق في محاولاته على الجهات الأربع يأتي كلَّ واحد بما يناسبه ونقاط الضعف عنده من أجل إضعافه وإغوائه .
فالآية تمثيل حسي قريب للإنسان ليأخذ حذره منه ومن محاولاته الشريرة
علما إنَّ الشيطان كما ذكر أهل العلم ليس له مسلك أو طريق لإغواء الإنسان إلا من نفسه وعقله بإلقاء الوسوسة في نفسه نَفْخًا ونَفْثًا وهَمْزًا…
ولكنه التمثيل القرآني في بيانه المعجز البيان لتحقيق مقاصده المؤثرة في ذهن المخاطب وحسه ووجدانه .
Categories: الإعجاز فى القرأن و السنة