تأملات (فلسفية) في الأزمة الكورونية : أين يكمن الخطأ بالضبط ؟
بقلم : د. عبد العظيم حماد*
قبل كل شئ أعتذر عن إستعمال وصف (فلسفية) بما أني لست من المنتمين إلى هذه الفئة الممتازة من المثقفين ، ولكن كل تأمل يتضمن بطبيعته مِسحة فلسفية إلا أن أحداً لا ينكر علي “جان جاك روسو” أحد أكبر الروافد الفكرية للتنوير وللثورة الفرنسية الكبري وصف الفيلسوف العظيم
بعد وقوع زلزال شديد العنف أودي بحياة عشرات الألوف من البشر من سكان مدينة لشبونة عاصمة البرتغال سئل روسو -المؤمن والمبشر بخيرية الطبيعة أو مايسميه بحالة الطبيعة الأولي- بتهكم واضح : ما بال طبيعتك الخيرة يا مسيو روسو تهلك الحرث والنسل علي هذا النحو بالغ العنف والتدمير في لشبونة في دقيقة من ليل أو نهار ؟ ؛ فأجاب : وهل الطبيعة قالت للبشر تكدسوا في مكان واحد علي نحو ما نفعل في مدننا ؟
كان الفيلسوف يريد أن يقول أن الخطأ يكمن في الطبيعة البشرية ذاتها وليس في طبيعة الكون مطردة السنن أو لنقل مطردة القوانين ، من ناحيتي فأنا أميل إلى هذه الرؤية وأحسبها تنطبق علي كل مجالات الحياة من العلم إلى الدين ،ومن السياسة إلى الاقتصاد ،ومن الثقافة إلى الاجتماع …الخ ؛ ولنأخذ وباء كورونا الحالي كمثال تطبيقي .. فالفيروس المسبب للوباء تحور و أنتشر في أسواق الحيوانات الحية (الصغيرة ) المتداولة للاستعمال الغذائي أو الإقتناء المنزلي في مدينة ووهان الصينية ، ومن سبق له زيارة هذه الأسواق -مثلي- سواء في الصين نفسها أو في (China Towns) المنتشرة في المدن الغربية الكبري خصوصاً الأمريكية ، يتذكر شدة الزحام فيها وتلاصق منصات البيع و عدم إستيفائها لشروط الصحة العامة والأمن الصناعي ، وأقرب شبه لها عندنا هو المنطقة الواقعة خلف مديرية أمن القاهرة و حول باب زويلة و امتداداته إلا أنه لحسن حظنا وبطبيعة ثقافتنا الغذائية لا تباع فيها الحيوانات الحية ، ومن باب المزيد من التوضيح لنقارن بين أسواق اللحوم والأسماك في أوروبا بل وبعض دول الخليج وبين الأسواق الصينية والهندية والمصرية دون أن ننسي أن أسواق أوروبا لا تبيع حيوانات حية
هذا هو الخطأ البشري الأول ؛ ولكن يسبقه عدم قدرة الصين أو عدم رغبتها في تطوير هذه الأسواق بعد أن ثبت أنها كانت مصدرا لوباء “سارس” الأول والثاني ثم لانفلونزا الطيور ؛ أما الخطأ البشري الثاني فهو إهمال أو الإستهانة بالإنذار أو التحذير المبكر الذي وجهه طبيب يوهان الذي أكتشف تحور الفيروس ورصد بدايات الوباء ، ثم يأتي بعد ذلك تأخر السلطات في المكافحة ثم التكتم علي الكارثة و عدم تنبيه بقية العالم
ليست الأخطاء البشرية في هذه المرحلة مقصورة علي الصينيين فحسب ، فهل يتصور عاقل أن حالة كهذه لا تدخل في إختصاص ومسئوليات أجهزة المخابرات و جمع المعلومات الأمريكية والأوروبية والروسية وغيرها ؟ فلماذا إذن تأخر الجميع في الإكتشاف والإنذار و إتخاذ الاحتياطيات ؟
الإحتمالات عديدة : إما أن تلك الأجهزة تقاعست أو إستهانت ، وإما أنها كانت في غيبوبة لأسباب غير معروفة ، و إما أنها أدت واجبها بالكامل وأبلغت حكوماتها ولكن هذه الحكومات إستهانت بالخطر أو تواكلت علي توقع هو في حقيقته نوع من التفكير بالتمني بأن الخطر بعيد !
ولكن كيف حدث ذلك .. أن تقع كل حكومات الدول الكبيرة في ذلك الخطأ و في اللحظة نفسها ؟
بعيداً عن نظرية المؤامرة ، فالأرجح أنها تبادلت المعلومات والتقييم المتهاون فيما بينها ، و أتفقت عليه خصوصاً مع شيوع فلسفة الحذر أو الشح في الإنفاق العام كقيمة إيديولوجية يروج لها بفجاجة وإرهاب فكري (دونالد ترامب) ؛و مما يجعلني أستبعد فكرة المؤامرة و أركز علي فكرة الأخطاء النابعة من النقص الفطري في الطبيعة البشرية هو تذكر سيل الأخطاء التي ارتكبها الساسة بالتهاون في تقدير خطر “هتلر” واضطهاد كل من حذرهم منها مثل تشرشل و ديجول مما أدي الي كارثة الحرب العالمية الثانية وكل ذلك كان خداعاً للنفس بأماني السلام ، بالإضافة إلى الحرص علي عدم الإنفاق حيث كانت الدول لم تتعاف بما يكفي من الكساد الكبير
لم يكن همي فيما سبق إدانة أو تبرئة طرف بقدر ماهو الإلتفات إلي القصور الكامن في طبيعتنا البشرية الذي يحد من قدرات العلم ، بل و قد يحرفه عن مساره ، فالبناء دون عيب في العلم ذاته ، وهو القصور ذاته الذي لم يمنع منتجي التنوير والحداثة من إرتكاب كل موبقات العنصرية والإبادة والنهب ، وهو القصور الذي لم يمنع رجال الأديان من تضليل البشر لترويضهم علي الخنوع للإستبداد والإستغلال والإستذلال
هل في هذا تشاؤم ؟
كلا .. ، فأنا من المؤمنين بالتقدم وبالعلم وبالخيرية في الطبيعة الكونية وفي الطبيعة البشرية ، وبالقدرة علي ارتقاء الروح ولكن مع إدراك حدود وقيود كل ذلك و التي تتمثل في المصالح والأنانية و سوء التقدير والتفكير المتمني والتحيزات الإيديولوجية وغيرها من الأوهام التي تحدث عن بعضها سير “فرانسيس بيكون” أو الأغلال والأوقار التي تحدثت عنها الأديان.
* رئيس تحرير الأهرام الأسبق.
Categories: أعمدة الرأى