بيئة العمل بين الطموح المشروع والإحتراق النفسي
بقلم : بسنت منجي
في هذا العالم المتسارع الذي صار فيه العمل لا يكتفي بساعات النهار، بل يقتحم المساء والبيت والنوم ، وفي زمنٍ تُقاس فيه الكفاءة بسرعة الأداء و حجمه لا بعمق العطاء و جدارته، أصبح الإنسان يلهث وسط دوامة من “التحفيز العدواني” أو التقييم القاسي ، فيتولد الخوف المزمن من الإقصاء؛ حتى باتت بيئة العمل -التي ولدت لتحقق الذات- تُهدد تلك الذات ذاتها. حيث لم يعد الخوف من فقد الوظيفة رفاهية عاطفية، بل صار عرضاً سريريّاً متفشياً في بيئات العمل الحديثة، حيث تتقاطع لغة الإنتاج مع لغة البقاء، ويتحوّل الأمن الوظيفي إلى حُلمٍ بعيد المنال يطارده العامل بين زخم أرقام التقييم وخطابات التحذير.
– و في اليوم العالمي للصحة النفسية الذي يوافق العاشر من أكتوبر ، ألتقينا الطبيبة الإستشارية في الطب النفسي [د. ناهد شوقي] ، التي أصطحبتنا في رحلة بدأت من جذور الخوف الأولى إلى نهايات الإحتراق ،مروراً بخرائط الدماغ وتقاطعاتها مع السياسات الإدارية للمنشآت، لنكتشف في النهاية أن علاج الأزمة يبدأ في أعماق الإنسان ، .. ثم أختتمت حديثها بتوصيات لإنقاذ أنفسنا من “الإحتراق الصامت”.
– ولأن القانون هو الملاذ لكل عامل يتعرض لغبنٍ أو جور، كان لقاؤنا أيضاً بالمستشار القانوني [د. نيازي مصطفى] –خبير التشريعات العمالية– الذي وضع العدسة القانونية على جذور الأزمة، محللاً انعكاس غياب الأمان الوظيفي على بيئة العمل، موضحاً كيف يمكن للتشريع أن يصبح درعاً يحمي العامل.
أولا
»{الخوف من الفقد .. بداية الإنهاك}«
تؤكد الأبحاث التي أجرتها الجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA) عام 2023 أن إنعدام الأمان الوظيفي يضاعف خطر الإصابة بالإكتئاب بنسبة تصل إلى 60%، وأن الشعور بعدم السيطرة على المستقبل المهني هو العنصر الأكثر فتكاً بالسلام النفسي.
° و هذا ما وصفته [د. ناهد] ، بأنه الجذر الأعمق للخوف ،لأنه خوفٌ بدائي في ثوبٍ عصري ؛ ثم شرحت قائلة :
> الإنسان المعاصر لا يهدده الوحش أو المجاعة، بل يعيش مُهدداً بتلقي خطاب الفصل أو التقييم السلبي ، وهذا الخوف يستنزف جهازه العصبي، ويُبقي جسده في حالة إستنفار دائم. مما يؤدي إلى إرتفاع واضح في هرمونات التوتر مثل :الكورتيزول والأدرينالين، وهو ما يفسّر شيوع الأرق، وآلام المعدة، واضطرابات التركيز بين العاملين في بيئات عمل غير مستقرة.
ثم توضح [د. ناهد] أن هذا القلق الخفي يُضعف قدرة الفرد على الإبداع ، وترى أن الطريق للخروج من هذه الدائرة يبدأ من فهم مصدر الخوف، وتحويله إلى دافع للنمو عبر التدريب والقراءة وبناء شبكة علاقات مهنية تمنح شعوراً بالأمان الداخلي لا الوظيفي فقط.
ثانيا
»{بيئة العمل السامة}«
– أظهرت الدراسات أن بعض الشركات العالمية تسعى عمداً لتكريس حالة من عدم الأمان الوظيفي بواسطة سياسة ـ”التحفيز العدواني”- وهو شكلٌ من الإدارة يعتمد على التخويف والإذلال كوسيلة لزيادة معدلات الأداء بغرض تحسين الإنتاجية أو لإجهاض أي مطالب عمالية كالعلاوات أو الترقيات …
لكن علم النفس التنظيمي يرى فشل تلك السياسة ، فوفقاً لدراسة نشرتها (جامعة ستانفورد) عام 2022 : أن ضغوط العمل القائمة على الخوف تقلل من الإنتاجية الفعلية بنسبة 35%، وتزيد معدلات الغياب المرضي والانقطاع ، و عَللتْ الدراسة ذلك بأن بث الخوف لا يصنع إبداعاً ، بل يخلق طاقة دفاعية تجعل العامل يحاول النجاة من تهديد مسلط.
° تُشير [د. ناهد] إلى خطورة ما تمارسه هذه المؤسسات ، حيث تؤدي البيئات السامة إلى إضطرابات جسدية–نفسية متداخلة تُعرف باسم Psychosomatic Disorders، حيث يتحول القهر النفسي إلى أعراض عضوية مثل الصداع المزمن، آلام المعدة، تسارع ضربات القلب.
ثم أوضحت أن العمل تحت تهديدٍ دائم يحوّل الموظف إلى آلة دفاعية فيتظاهر بالإنشغال، أو يتمارض، أو يفرط في التملق و الإرضاء.
وتحذر من أن هذا النمط يدمّر الولاء والكفاءة ويشيع داخل المنشأة طاقةً سلبية تتغذى على الخوف.
– ويعلّق من جانبه [د. نيازي مصطفى] قائلاً:
> أقول لأصحاب الأعمال أن الإحصاءات أثبتت أن مرض “الإكتئاب” يأتي في المرتبة الثانية من بين الأسباب التي من شأنها أن تُعيق العمل و تعرقل سير عجلة الإنتاج ..؛ لذلك فمن واجبات أصحاب الأعمال حماية الصحة النفسية لموظفيهم تجنباً لإنهيار منظومة العمل داخل شركاتهم ، و أشير أن قانون العمل وضع باباً كاملاً للسلامة و الصحة المهنية و ألزم صاحب العمل بإتباع خطوات و إجراءات محددة تحفظ للعمال سلامتهم و أمنهم ، و قد أقر القانون صراحةً على حق العامل في صون كرامته الإنسانية و سلامته التي تشمل بالقطع سلامته النفسية.
وأناشد صاحب العمل ألا يمارس سياسة التحفيز العدواني لأنها قد تؤدي لأرباح وقتية عاجلة لكنها في المدى المنظور ستؤدي لإنهيار منظومة العمل بأكملها داخل المنشأة كنتيجةٍ حتمية لإنهيار السلامة الوجدانية للعاملين.
ثالثا
»{التنمر و التحرش}«
– بينت دراسة نرويجية موسعة عام 2019، أن الموظفين الذين يتعرضون للتنمّر الوظيفي معرضون للإصابة بالإكتئاب بنسبة ثلاثة أضعاف مقارنة بغيرهم؛ فالتنمر داخل العمل ليس مجرد كلمات قاسية فحسب بل هو تجربة نفسية تترك ندوباً لا تُمحى بسهولة.
أما التحرش المهني … فهو يُعَد صدمةٌ تسرق الأمان النفسي و يترك جُرحاً نفسياً عميقاً لا يقل عن أي إعتداء صريح.
تشير دراسة أجرتها جامعة مينيسوتا إلى أن 40% من النساء و12% من الرجال قد تعرضوا لشكل من أشكال التحرش الوظيفي، وأن 60% منهم أظهروا أعراض إضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) خلال الأشهر التالية.
° تعلّق [د. ناهد] بقولها :
إن المتحرش لا يؤذي الجسد فقط، بل يهدد إحساس الإنسان بالأمان داخل الفضاء المهني، وحين يصمت الضحية خوفاً من الفضيحة، يتحول الألم إلى صراعٍ داخلي دائم بين قطبيّ الكتمان والعار.
وتضيف أن تكرار هذه الخبرات يُغيّر من كيمياء الدماغ فعلياً؛ إذ تُظهر دراسات التصوير العصبي إنخفاض النشاط في مناطق الذاكرة و الإنتباه وزيادة في مراكز الخطر والتهديد.
– و يوضح [د. نيازي مصطفى] الرؤية القانونية:
> أهتم القانون بوضع تعريف محدد لهذه الأفعال الشائنة و ألزم المنشآت بتوقيع الجزاء الإداري علي من يقوم بهذا الفعل بغض النظر عن نوعه أو درجته الوظيفية أي يُلزم القانون توقيع الجزاء علي المدراء أيضاً حال قيام أحدهم بالتنمر علي أحد العاملين أو التحرش به..وفي ذلك ضمانة للعامل بأن يجهر بالشكوى و ألا يلوذ بالكتمان خشية نفوذ من أعتدى عليه.
كما ستوصى القرارات التنفيذية بوجوب تركيب كاميرات في شتي أنحاء المنشأة، و كذلك وجوب توافر صناديق الشكاوى.. وهو ما يتيح للعامل/العاملة إثبات ما وقع عليه من إعتداء ، و من المفترض أن تلتزم اللوائح الداخلية للشركات بتغليظ عقوبة التحرش لتصل الى الفصل النهائى .
لذا لا معني لسقوط العامل في هوة الكتمان خشية العار لاسيما بعد وجود تلك الضمانات الرادعة لكل من تسول له نفسه الإعتداء.
رابعاً
»{الفصل التعسفي}«
الفصل التعسفي أو الجزاءات الظالمة مثلهما مثل التهديد المستمر بإنهاء الخدمة، ليست مجرد إجراءات إدارية فحسب بل إنها تعد صدمات نفسية كاملة الأركان؛ لأنها تهاجم إحساس المرء بذاته وتجعله يشعر بتدني قيمته الذاتية ، كما تُطلق في الدماغ مسارات الخطر ذاتها التي تُفعَّل في المواقف الصادمة، فيرتفع الكورتيزول والأدرينالين، ومع تكرار تلك الحالات، يتحول الجسم إلى “نظام طوارئ مستمر”، مما يفسر شيوع أعراض مثل: خفقان القلب، وآلام العضلات ، و الذبحة الصدرية دون سبب عضوي.
– وهنا تحذر [د. ناهد] (من أن الفصل أو الجزاءات القاسية قد تخلق ما يشبه إضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) ، لاسيما إذا شعر العامل بالإهانة أو الخيانة أو فقدان الدعم الإجتماعي ، وتضيف) :
ما لم يُعالج هذا الجرح النفسي، يتحول إلى دائرة من العجز المكتسب، يفقد معها الإنسان شهيته للحياة ذاتها ، و يصير عرضة للإصابة بالأزمات القلبية أو الاكتئاب.
– يُشير [د. نيازي مصطفى] من جانبه إلى البعد القانوني للأمان الوظيفي قائلاً:
> هذا أحد أهم الأهداف المعلنة للقانون ،حيث أشتمل على عدة مواد و بنود ترسخ مفهوم الأمن الوظيفي للعامل منها :
• أنه أعتبر أن الأصل العام في عقد العمل هي العقود الغير محددة المدة ، وهذا مما يحقق الاستقرار للعامل في الوظيفة
• وضع القانون ضوابط صارمة لضبط أمر الإستقالة فلا يعتد بها إلا بعد اعتمادها من الجهة الإدارية ؛ ثم جاء القرار التنفيذى الصادر من وزارة العمل في هذا الشأن لكي يضبط الإجراءات بشكل صارم حيث نص علي وجوب ذهاب العامل بنفسه لإعتماد إستقالته من مكاتب و مدريات العمل المنتشرة بأنحاء الجمهورية.
(وبذلك أنهي القانون مأساة كانت منتشرة قبل صدوره و هي الإستقالة المسبقة التي كان يوقعها العامل مع توقيعه لعقد العمل، و بالتالي لا يمكن إنهاء عقد العقد من طرف صاحب العمل وحده، و بهذا خلق القانون توازناً محموداً في علاقات العمل القائمة كنا ننشده منذ سنوات.)
خامساً
»{الإحتراق النفسي}«
… كل ما سبق يُعد من الأسباب الرئيسة للوقوع فريسة لهذا القاتل الصامت الذي يلتهم شغفَ المرء بالحياة ، ثم يدمر قدرته على التواصل قبل أن يُسقطه في هوة اليأس.
– لقد أدرجت منظمة الصحة العالمية مرض “الإحتراق النفسي المهني” -في عام 2019- ضمن التصنيفات المعتمدة للأمراض المرتبطة بالعمل، وعَرّفته بأنه “حالة من الإرهاق المزمن الناتج عن ضغوط مهنية لم تتم إدارتها بنجاح”
(ويتكوّن –وفق الدراسات– من ثلاثة محاور متلازمة ،و هي :
1. الإنهاك العاطفي ؛ ومن أعراضه الشعور الدائم بالإرهاق مع فقدان الطاقة.
2. الإغتراب عن العمل (depersonalization) ؛ و من أعراضه التبلّد أو النفور من مهام العمل و من الزملاء.
3. تراجع الكفاءة الذاتية؛ حيث يرزح الإنسان تحت وطأة الإحساس المتزايد بعدم الجدوى و الفشل الشخصي.)
إن الإحتراق ليس تعباً نفسياً عابراً بل إنه عملية بيولوجية عصبية قابلة للقياس، حيث أثبتت دراسات التصوير بالرنين المغناطيسي (fMRI) أن من يعانون الإحتراق المهني تظهر لديهم تغيرات في القشرة الجبهية المسؤولة عن التركيز و إتخاذ القرار، مع نشاط متزايد لعمل اللوزة الدماغية (amygdala) المسؤولة عن الإستجابة للخطر ؛ بالإضافة إلى خلل في محور الغدة النخامية – الكظرية (HPA axis)، وهو الآلية التي تُنظم إفراز هرمون الكورتيزول، مما يفسر الإرهاق المزمن واضطرابات النوم والذاكرة. بينما تجيب المدرسة النفسية السلوكية عن أسباب الإرهاق المهني المزمن حيث تعتبره نتيجةً مباشرة لخلل في نظام “الثواب والعقاب” بالمنشأة، فعندما يُكافأ الموظف ذو الحظوة عند المدراء ، بينما يتم تجاهل زميله الذي يتسم بجودة الإنجاز ، أو حينما يُوَبَّخ العامل بدلاً من أن يُوَجّه، حينذاك تتراكم لديه محفزات التوتر.
° وتشرح [د. ناهد] بقولها :
العامل الذي لا يتلقى سوى النقد، يبرمج ذهنه على الخوف بدل دافعية الإنجاز و التميز ، فيتعلم الإنسحاب أو يبالغ في الإرضاء حتى حد الإنهاك.
° وتضيف قائلة :
تلك الحالة المستمرة من التوتر تفقد المخ مرونته، وتؤدي بمرور الوقت إلى تبلّد المشاعر أو ما نسميه الإحتراق الكامل ، و عند التدهور لهذه الدرجة يصير لزاماً اللجوء للطبيب و تناول العلاج الدوائي ، لكن الشفاء الحقيقي سيبدأ بمصارحة الذات أمام الطبيب المعالج ، فالعلاج بمثابة رحلة لإستكشاف الذات وإستعادة المعنى، و ليس مجرد دواء لتخفيف الأعراض.
سادساً :
»{توصيات للعمال}«
° يقول “د.نيازي” :
في البداية أوجه للعامل توصية أولية بألا يترك نفسه نهباً لمخاوف لا أساس لها ، فإنهاء علاقة العمل لها ضوابط حددها القانون ، أي أن القانون يغل يد صاحب العمل عن فصل العامل و يلزمه بإستكمال مدة العقد ، و أطالب عمال مصر بالإطلاع على قانون العمل الجديد لتبديد الأوهام التي قد تخلق مخاوف لا أساس لها ..
° أما في حال تعرض العامل لضغوط أو إضطهاد لم يصل لحد إتخاذ إجراء عقابي ضده ، ينصح “د.مصطفى” العامل بالتوجه مباشرةً لإدارة الموارد البشرية بالمنشأة لكونها الإدارة المختصة و المدربة على فض النزاعات في مهدها و لأنها الإدارة التي تدرك أن الذخيرة الحية لأي شركة تتمثل في العنصر البشري الذي يحول الخامات الجامدة إلى إنتاج يدر العوائد و الأرباح ، لذا ستهرع لحل الخلاف قبل أن يتحول لأزمة و هو ما سيرفع الضغوط عن كاهل العامل و يعود بالنفع على المنشأة في الوقت نفسه.
° اما في حال تعرض العامل لإجراء عقابي يحمل غبناً أو تعرضه لحجب راتبه أو مستحقاته ، ينصحه بأن يتوجه على الفور إلى مكتب العمل الذي تتبعه المنشأة و يتقدم بشكوى كتابية بعد مناقشة الأمر مع الموظف المختص ، لأن سرعة رفع الشكوى سيسهل كثيراً من الإجراءات التالية.
° و يضيف قائلاً :
أما في حال تعرض مجموعة من العاملين لإجراء عقابي به جور ، أنصحهم بالتوجه للمنظمة النقابية التابعين لها ، ثم التوجه لمركز التسوية و التحكيم.
° كما أناشد وزارة العمل و المنظمات النقابية بتنظيم دورات تدريبية و تخصصية في كيفية الحفاظ على السلامة النفسية و الأثر الإيجابي لذلك في خلق بيئة عمل صحية و محفزة للنمو بما يعود بالنفع على المنشآت و العمال على حد سواء.
° و أختتم “د.نيازي” حديثه قائلاً:
و أقول للعامل أخيراً ،إن علاقات العمل تفرض عليك واجبات محددة .. فقم بها على الوجه الأمثل دون تقصير ، و لكن على الجانب الآخر لك حقوق فلا تفرط فيها ولا تسمح لأحد بممارسة ضغوط سلبية عليك ، فالقانون هو الحكم الفصل عند نشوب أي نزاع.
Categories: أخبار, أعمدة الرأى, السلامة و الصحة المهنية, الصحه, المؤسسة الثقافية العمالية, المدرب المحترف, المرأة و المجتمع, المواطن هو البطل, تثقيف عمالى, تحقيقات, ثقافة و فنون, سياسة, سياسة, صحة, صحه, ضمان الجودة والأعتماد, عن المؤسسة الثقافية العمالية, كلمة و مقال, مستشارك القانونى