Menu

هل تبقى الجامعة “العمالية” عمالية ؟! (2/2)

بقلم: طارق أحمد مصطفى

عرضنا فى الجزء الأول من المقال نشأة فكرة الجامعة العمالية منذ الستينات حتى وصلت إلى فترة ازدهار مهمة فى تاريخها اعتبرها الكثيرون عصراً ذهبياً للجامعة منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي وحتى السنوات الست الأولى من الألفية الجديدة. وخلال تلك الفترة، وبينما كانت الجامعة العمالية مستمرة فى التوسع عبر السنوات، لم يكن يغيب عن بال قياداتها الحلم القديم بترسيخ أسس جامعة عمالية شعبية، ولا يغفلون عن الرسالة الأصلية لها وهي خدمة الحركة النقابية المصرية، فأصبحت الجامعة تمول بسخاء كبير أنشطة التثقيف العمالي بكافة مستوياته من حصيلة إيرادات الشعبتين الجديدتين، دون تحمل النقابات لأية تكاليف ودون انتظار منح أوإعانات دولية أو حكومية. ورغم ذلك فقد حدث تراجع تدريجي في تقديم البرامج الدراسية الطويلة التى امتازت بها شعب مركزي الدراسات النقابية واقتصاديات العمل، فبعد أن كانت تقدم برامج دراسية تستمر لعامين تم تخفيض مدة كل برنامج إلى عام ثم إلى ستة أشهر ثم إلى ثلاثة أشهر ثم أسبوعين، ثم صارت مع الوقت تقدم برامج قصيرة لمدة ثلاثة أو خمسة أيام لا فرق بينها وبين البرامج التي تقدمها المعاهد المتخصصة، وهذا ما يعني أن برامج التثقيف العالى الذي تحدثنا عنها فى المقال السابق قد أُوقفت، بعد أن كان منتظراً أن يتم تطويرها وتحسينها.
وفي المقابل كان التوسع الكبير الذي جرى للشعبتين الأكاديميتين مالياً وإدارياً، ودخول عدد كبير من العاملين وأعضاء هيئة التدريس لم يسبق لهم العمل بالمؤسسة والجامعة من قبل، ولم تترسخ في وجدانهم بالضرورة رسالة المؤسسة والجامعة الأصلية ولا يعلمون إلا القليل عن الحلم القديم، بالإضافة لحاجة الجامعة للاستجابة للقواعد التنظيمية المتعددة والمتجددة التي تضعها وزارة التعليم العالي والمجلس الأعلى للجامعات، كل ذلك جعل شعبتي التنمية التكنولوجية والعلاقات الصناعية تستأثران بالجزء الأكبر من عناية ووقت وجهد الإدارة، وتستحوذان على القدر الأكبر من الاهتمام، بل صار البعض يرى أنشطة التثقيف العمالي عبئاً على هذه الشعب الأكاديمية، وظهرت أصوات تردد أنه ليس على الجامعة أن تُبقى على أنشطة غير هادفة للربح تستنزف موارد الجامعة، ينظرون إليها على أنها لم تعد مواكبة للعصر الليبرالي الجديد، بل عليها أن تُفسح المجال للأنشطة المدرة للدخل والمطلوبة من السوق !!
وكان من ضمن التحولات التنظيمية الهامة في هذا الاتجاه ما حدث من إعادة هيكلة للجامعة من أجل فصل الإدارة الأكاديمية للجامعة عن إدارة المؤسسة الثقافية العمالية، استجابةً لرغبة المجلس الأعلى للجامعات الذي يرى أن إدارة جامعة تمنح درجة البكالوريوس لابد أن تكون فى أيدي الأكاديميين وحدهم، وألا يتدخل غير الأكاديميين فى الشأن التعليمي. لذلك تم توسيع الهيكل من خلال إلغاء قطاع الجامعة بشكله السابق، وضم مراكز الدراسات النقابية واقتصاديات العمل والحاسب الآلى واللغات تحت “قطاع التدريب النقابي”، بينما تم ضم مركزي البحوث والمعلومات تحت قطاع “البحوث والتطوير”، وتم تحويل “الأمانة العامة” إلى قطاع يضم إدارات عامة للشئون المالية والإدارية وشئون الطلاب وشئون هيئة التدريس، كما تم إلغاء مسمى مركز الدراسات المتخصصة، وابتكار مسمى جديد ألا وهو “أكاديمية الدراسات المتخصصة” لتندرج تحته الإدارة الأكاديمية للشعبتين، ولكن المفارقة أن كلاً من الطلاب والإعلام والأجهزة الرسمية للدولة لم يعترف أحد منهم بهذا المسمى ولم يتداولوه، واستمر تداولهم فقط لمسمى “الجامعة العمالية”.
ولما لم يعد هناك صوت يعلو فوق صوت الشعب الأكاديمية، خرجت الشئون المالية والإدارية والتنظيمية لقطاعي “التدريب النقابي” و”البحوث والتطوير” من مسئولية قطاع الأمانة العامة والذي أصبح مثقلاً بالمسئوليات الخاصة بالشعبتين المتخصصتين بفروعهما المتعددة، واللتين إضيف لهما شعبة ثالثة فيما بعد وهي شعبة الفندقة. ولم ينتبه من أجرى هذا التحول التنظيمي أنهم بذلك قد أخرجوا قطاعي “التدريب النقابي” و”البحوث والتطوير” سهواً من مفهوم الجامعة العمالية، وأدخلوهما في مفهوم المؤسسة الثقافية العمالية، ثم مؤخراً – في غفلة من الزمن – تم تغيير مسميات تلك القطاعات ومراكزها وتفكيكها وتذويبها داخل قطاعات المؤسسة، في إعلان شبه رسمي على اختفاء الجامعة العمالية بمفهومها الأصلي.
واستمراراً لتلاشي الفكرة وضياع البوصلة، صحونا ذات يوم على أصوات بعض من يعلن أن كلمة “عمالية” صارت عبئاً على الجامعة، ويعلنون رغبتهم فى تغيير مسماها إلى “الجامعة التكنولوجية” إرضاءاً لرغبة الأكاديميين الذين استحوذوا على مقدرات الجامعة وسلبوها من أصحابها الأصليين، وهم الفئات الشعبية الكادحة المكافحة من عمال مصر، وكأنهم يرون أن الانتماء للعمال عاراً يريدون التبرؤ منه، أو كأنهم اكتشفوا فجأة أن هذه الكلمة – التي جذبت من قبل عشرات الآلاف من الطلاب لسنوات طويلة – غير أنيقة ولا تليق بأصحاب الياقات البيضاء ولا بالعصر الجديد الذي نعيش فيه. ولكن من سخرية القدر، أن يأتي ذوبان الجامعة العمالية بمفهومها الأصلي مواكباً لتهديد وجود الجامعة العمالية بمفهومها الواقعي الجديد، في رسالة واضحة تشير إلى أنه لا بقاء لهذه في الحقيقة بل لا معنى لوجودها إلا بتلك. فالكيانات لا تقوم فقط على مبانٍ وأحجار وأجهزة وبشر، ولكنها تقوم قبل كل شيئ على حلم ورسالة ورؤية استراتيجية إن تلاشت، تفككت معها الكيانات.
ووسط كل الصخب الذي يموج حول الجامعة العمالية ومصيرها ومقدرات العاملين بها، لا نكاد نجد من يبكي على رسالة الجامعة العمالية الأصلية التي تتوارى خلف الضجيج، ولا يلوح لنا أمل فى إعادة إحياء هذه الرسالة وإنقاذ أحد أهم مكتسبات عمال مصر المهددة، إلا في قيادات نقابية قوية مخلصة لا تزال مؤمنة بالحلم وباقية على العهد، قيادات واعية بأن هذه الجامعة قامت بالعمال ومن أجلهم، وحققت ما حققت بسبب ما للعمال من ثِقل سياسي ومجتمعي، وما يملكونه من ظهير شعبي، وما يتحلون به من وطنية وقدرة على الحلم بمستقبل أفضل لأبناء هذا الوطن. فـ”عمالية” هذه الجامعة ستظل هي عنصر القوة التفاوضية الأساسي لبقاءها وإنقاذها، في مواجهة حكومة يعلو فيها صوت النخب الأكاديمية ورجال الأعمال.

Categories:   أخبار الجامعة, تثقيف عمالى, صوت الجامعة العمالية

Comments