Menu

الإمبراطورية الرومانية و القمح المصري

بقلم : أ. د. أشرف منصور

إذا اطلعنا على ما كتب عن تاريخ حوض البحر المتوسط في عصر الرومان وجدنا معظمه يركز على التاريخ السياسي و العسكري، وأغلبه وصف للصفقات السياسية و الصراعات بين القادة الرومان وممالك شرق المتوسط من مقدونيين و سلوقيين و بطالمة، ووصف للعمليات العسكرية الدائرة فيه وانتصارات الرومان المستمرة وحروبهم الأهلية وتغير نظمهم السياسية. و الخلاصة أن هذه الكتابات ترسم صورة للرومان باعتبارهم اللاعب الأساسي، ثم الوحيد بعد ذلك، في حوض البحر المتوسط منذ القرن الثاني قبل الميلاد. لكن أهم ورقة كان يلعب بها هذا اللاعب الروماني كانت هي القمح المصري.

تحاول هذه الدراسة تتبع دور القمح المصري في السياسة الرومانية مركزة على أواخر العصر الجمهوري و أوائل عصر الإمبراطورية، ورصد كيفية استخدام الرومان له في صراعاتهم مع بعضهم البعض و مع غيرهم من القوى الأخرى في عصر الجمهورية، ودوره المركزي في اقتصاد الإمبراطورية. هذا التتبع لدور القمح المصري في العصر الروماني هو محاولة للخروج عن الإطار التقليدي الذي وضعت فيه مصر في كتابات ذلك العصر، باعتبارها مملكة بطلمية في البداية وباعتبارها ولاية رومانية بعد ذلك. وفي الحالتين تسيطر على مصر قوة أجنبية سواء الأسرة البطلمية المقدونية أولا أو القادة الرومان ثانيا. ليست مصر في هذه الكتابات سوى إقليم يدير شؤونه قوة أجنبية، و بذلك يأتي التأريخ لهذا العصر باعتباره تاريخ العلاقات السياسية بين البطالمة و الرومان، وصراع القادة الرومان فيما بينهم للاستيلاء على مصر، في حين أن الهدف الأساسي لكل هذه الصراعات هو السيطرة على القمح المصري.

كانت مصر “مخزن غلال الإمبراطورية”، فلنجعل من أنفسنا أمناء هذا المخزن لنعرف ماذا كان يفعل الرومان بما يأخذونه منه.

إن تتبع دور القمح المصري في العصر الروماني إنما يرد الاعتبار للفلاح المصري بأن يرسم صورة لذلك العصر من وجهة نظره. إذا تخيلت أنك فلاح مصري منتج للقمح في العصر الروماني، وإذا رأيت قمحك هذا يخرج من بين يديك و من مصر كلها لتكون له مصائر أخرى في جميع أنحاء حوض البحر المتوسط، فسوف يهمك أن تتابعه و تعرف دوره الاقتصادي و السياسي خارج حدود مصر.
* ازدياد الطلب الروماني على القمح المصري منذ القرن الثاني ق.م. :

ظهر أول احتياج للقمح المصري من قبل الرومان قبيل نهاية حروب هانيبال (200-194 ق.م). أدت هذه الحروب التي غزا فيها القائد القرطاجي هانيبال شبه جزيرة إيطاليا إلى تخريب مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، لا في إيطاليا وحسب بل في كل المناطق التي دارت فيها الحرب: أسبانيا وصقلية وشمال أفريقيا (لويس 26) . لكن الطلب على القمح المصري لم يتضخم إلا بعد أن دخل الرومان في حروب عديدة مع القوى الأخرى في حوض البحر المتوسط خلال القرن الثاني قبل الميلاد. فقد انشغل الرومان في حروب مع مقدونيا (171-168/149-146 ق.م) وقرطاجة (149-146 ق.م) وحرب يوجورثا في شمال أفريقيا (111-105 ق.م) و حروب العبيد (198/196/185/135-132 ق.م). ومع اتساع رقعة العمليات العسكرية تدمرت الكثير من الأراضي الزراعية في مختلف أنحاء حوض البحر المتوسط. وبعد هذه الحروب لم يبق إقليم لم تتعرض زراعته للتخريب إلا مصر، إذ حافظت طوال هذه السنين على إنتاجية عالية و ثابتة.

كما كانت نتيجة كثرة الحروب وطول أمدها أن ازداد حجم الجيوش وازداد تجنيد الفلاحين الرومان، ولم يستطع هؤلاء الفلاحون العودة إلى أراضيهم مع زيادة الحاجة إلى جيوش قائمة وجاهزة باستمرار. فبدأ الرومان في استيراد القمح المصري بصورة منتظمة من أواخر القرن الثاني ق.م، و كانوا يأخذونه بأسعار زهيدة من البطالمة إذ كانت روما في ذلك الوقت الحامية الرسمية للأسرة البطلمية والضامنة لاستمرارها في الحكم.

وبالإضافة إلى ذلك أدت حروب هانيبال و الحروب التي تلتها إلى أن وضعت الدولة الرومانية يدها على الكثير من الأراضي في جنوب إيطاليا كانت ملكا للمجتمعات التي تحالفت مع هانيبال، وكانت هذه الأراضي ملكا عاما للشعب الروماني Ager Publicus Populi Romani. إلا أنها كانت في حاجة إلى استصلاح، ولم يكن أحد قادرا على استصلاحها إلا الطبقة الأرستقراطية التي تملك الإمكانات اللازمة، وبالتالي وضعت هذه الطبقة يدها على الأرض بصفتها مستأجرة أولا، وبمرور الزمن اعتبرتها ملكا لها (نصحي، ص 12-20) . وهذا ما أدى إلى وقوع صدام بين الأرستقراطية والعامة.

ففي خلال القرن الثاني ازدادت أعداد طبقة العامة في روما وجوارها، وكانت مؤلفة من جنود سابقين تم تسريحهم ومزارعين هجروا أراضيهم للبحث عن مصدر للرزق في روما. ومع ازدياد استخدام العبيد في الزراعة الإيطالية زادت البطالة بين العامة؛ وهنا حدث الصدام. ففي 133 ق.م طالب نقيب العامة تيبريوس جراكوس بإعادة توزيع الأراضي العامة على فقراء الرومان، إلا أن هذه الأرض كانت في حوزة الأرستقراطية ولم ترد التنازل عنها، وعندئذ اندلعت الاضطرابات العنيفة التي انتهت باغتيال جراكوس وبدأ عصر الثورة الذي شهد صراعات بين الرومان وحروبا أهلية انتهت بتقويض النظام الجمهوري وتأسيس الإمبراطورية. وقد بدأت في أواخر عصر الجمهورية عملية تنحية الأرستقراطية عن قيادتها للدولة على أيدي عدد من القادة العسكريين أمثال ماريوس وصلا وقيصر وأوكتافيوس أغسطس (نصحي 18-29). وتتمثل أهمية القمح المصري بالنسبة للسياسة الداخلية الرومانية في هذه الفترة وما صاحبها من تغيرات في البناء السياسي للدولة في أن الرومان كي يحلوا مشكلة العامة ويخففوا من حدة صراعها مع الأرستقراطية اتبعوا سياسة توزيع كميات كبيرة من القمح بسعر زهيد وبصورة منتظمة. ومع ازدياد أعداد طبقة العامة لم تكف مصادر القمح القائمة في توفير الكميات المطلوبة، ومن ثم اتجهت أنظار الرومان نحو مصر. لقد كان الرومان ينفقون على ديمقراطيتهم بالقمح المصري.
 و لعب القمح المصري دورا مركزيا في شراء الأرستقراطية سكوت العامة عن المطالبة بالمزيد من الأراضي، وبالتالي أطال في حياة النظام الجمهوري الذي كانت تمسك فيه الأرستقراطية بزمام الدولة لقرن كامل. وعلى الجانب الآخر تمكن عدد من القادة الرومان من الوصول إلى مناصب سياسية رفيعة في الدولة بنجاحهم في كسب ولاء العامة بشراء أصواتهم بالقمح المجاني، وبذلك ازدادت أعداد المغامرين والقادة العسكريين وتحدوا السيناتو الذي تسيطر عليه الأرستقراطية حتى أنهم هددوا مدينة روما نفسها، إذ نجح ماريوس وصلا وقيصر في فرض إراداتهم على الأرستقراطية بل وفرض إصلاحاتهم الدستورية لأكثر من مرة.

 * مخزن غلال الإمبراطورية :

لكن ما الذي جعل مصر مخزنا لغلال الإمبراطورية من البداية؟ كي تكون إنتاجية الأرض الزراعية عالية ومنتظمة يجب أن يكون هناك استقرار للفلاح على الأرض، ونظرا لأن الفلاح المصري مستقر لآلاف السنين كانت إنتاجية مصر من القمح عالية وثابتة، و هذا ما جعلها مطمعا للرومان في البداية، ومخزنا لغلال الإمبراطورية بعد ذلك. أما مناطق زراعة القمح الأخرى في حوض البحر المتوسط فلم تكن تتمتع بالإنتاجية المنتظمة والعالية، ذلك لأن أغلبها يعتمد على الأمطار، و إنتاجية زراعة الأمطار دائما ما تكون ضعيفة بالمقارنة بالزراعة على مياه نهر النيل، كذلك تكون زراعة الأمطار عرضة للتقلبات المناخية، ويمكن ألا تنتج زراعات القمح شيئا يذكر في حالة الأجواء السيئة؛ كما تتأثر خصوبة تلك الأراضي بالتقلبات الجوية، في حين تتجدد خصوبة الأرض المصرية سنويا بما يأتي به الفيضان من طمي جديد. أما الأنهار الأخرى في حوض البحر المتوسط فأغلبها قصير و مياهه متواضعة وبعضها يجف في فترات معينة من السنة.

ومن ناحية أخرى اعتمدت أراض كثيرة في جنوب إيطاليا وصقلية وأسبانيا على عمالة العبيد؛ وزراعات القمح المعتمدة على العبيد لا يمكن أن تكون منتظمة وعالية، إذ كان العبيد في ثورات دائمة كما أن الاحتفاظ بـهم ومنعهم من الهروب يتطلب قوة عسكرية كبيرة. وبعد أن استتب الأمن الروماني في حوض البحر المتوسط في العقود الأخيرة قبل الميلاد لم يعد هناك مصدر للعبيد الذين كان أغلبهم أسرى حروب (Kautsky) ، ونقصت أعدادهم كثيرا مما أدى إلى ضعف إنتاجية القمح في النصف الغربي من الإمبراطورية، وبالتالي زاد احتياج الرومان للقمح المصري، إذ لم تكن الزراعة المصرية معتمدة على العبيد بل على الفلاحين.

و في حين شهد حوض البحر المتوسط تغيرات حادة في توزيع سكانه في القرنين الأخيرين قبل الميلاد من جراء كثرة الهجرات والمجاعات والحروب المستمرة وعدم الاستقرار السياسي، ظلت مصر محتفظة بسكان مستقرين، وهذا ما ساعد على ثبات إنتاجية مصر العالية من القمح، في حين شهدت مناطق زراعته الأخرى تغيرات حادة. لقد كان الفلاح المصري المستقر في أرضه من أهم دعائم الإمبراطورية الرومانية.

كما كانت زراعة القمح والحبوب الأخرى مكلفة للغاية في أنحاء حوض البحر المتوسط، ولم يكن القمح سلعة مربحة نظرا لصعوبة زراعته وإهلاكه للتربة واحتياجه لأيد عاملة كثيرة، وبالتالي كان إنتاج القمح في هذه المناطق لا يزيد كثيرا عن سد احتياجات السكان المحليين (Rostovtzeff, p. 89). أما إنتاج مصر من القمح فمختلف، ذلك لأنه وفير ويفيض عن حاجة السكان بعشرات الأضعاف نظرا للإنتاجية العالية. وبالتالي لم يستطع الرومان جلب القمح بكميات كبيرة إلا من مصر.

 وعلاوة على صعوبة زراعته هناك صعوبات أخرى في نقله لمسافات بعيدة، إذ يحتاج إلى شبكة مواصلات وطرق ممهدة إذا ما تم نقله لمسافة أكثر من 100 كيلومتر، كما أن سعره يتضاعف عندما يتم نقله لمسافة أكثر من 300 كيلومتر. ولم تكن مصر تعاني من هذه المشكلات؛ إذ كان النيل أول طريق سريع في التاريخ High Way وأطول من أي طريق بري أنشأه الرومان، إذ مكن الرومان من تجميع القمح من الحقول وشحنه في السفن حتى الإسكندرية ومنها إلى كافة أنحاء الإمبراطورية؛ فكانت السفن المحملة بالقمح تنطلق بسرعة نحو الشمال مع تيار مياه النيل، وبعد أن تفرغ حمولتها تصبح خفيفة فتعود إلى الجنوب مرة أخرى مستخدمة رياح الشمال. فبالإضافة إلى إنتاجية مصر العالية من القمح كان نقله منها سريعا بفضل النيل وميناء الإسكندرية.

Categories:   أدب ونقد, أعمدة الرأى, إطلالة تاريخية

Comments