Menu

الإمبراطورية الرومانية والقمح المصري (2-2)

بقلم : أ .د / أشرف  منصور

  • * القمح المصري في عصر الثورة الرومانية (133-43 ق.م) :

ألمحنا في فقرة سابقة إلى الدور الذي لعبه القمح المصري في الصراع بين العامة والأرستقراطية ابتداء من سنة 133 ق.م. واتخذ هذا الصراع بعدا جديدا بتولي جايوس جراكوس شقيق تيبريوس نقابة العامة واقتراحه مشروع قانون يسمى قانون القمح، يقضي بأن تشتري الحكومة من الخارج كميات كبيرة من القمح وتودعها في مخازن مخصصة لذلك في ميناء أوستيا (ميناء روما على البحر المتوسط)، وتبيع منها لكل مواطن روماني نظير سعر ثابت على مدار العام، وقد كان سعرا زهيدا للغاية مما جعل القمح متاحا للفقراء (نصحي 107). وكانت مصر من أهم مصادر هذا القمح. معنى هذا أن ذلك القانون جعل الحكومة ملزمة بتوفير القمح بسعر زهيد، بعد أن كان إمداد روما بالقمح مهمة التجار الذين كان أغلبهم من الأرستقراطية؛ مما كان خطوة نحو تنحية الأرستقراطية عن قيادتها للدولة تمهيدا للتحول إلى النظام الإمبراطوري الذي أصبح في يد العسكريين. وبالفعل ففي أواخر عصر الجمهورية باشر القناصل الذين أتى معظمهم من الجيش إدارة شؤون القمح من أمثال ماريوس وصلا وبومبي وكراسوس وقيصر وأنطونيوس وأوكتافيوس.

ونظرا لأهمية مصر بالنسبة لإمدادات القمح الرومانية اتجهت أنظار القادة العسكريين ابتداء من كراسوس ومرورا ببومبي وقيصر وأنطونيوس إلى مصر وبدأوا في إدخال الأسرة البطلمية في حبائل السياسة الرومانية حتى انتهوا إلى إخضاع مصر نهائيا للحكم الروماني. وبذلك تداخلت مهمة إدارة القمح مع مهمة إخضاع مصر للسيطرة الرومانية، فالقادة الذين تولوا إدارة القمح هم أنفسهم أصحاب مشروع ضم مصر للدولة الرومانية ومنفذيه كذلك.

كما لعب القمح المصري دورا حاسما في الحرب الأهلية الرومانية في أواخر عصر الجمهورية. فقد تمكن بومبي باعتماده على مصر من حشد أسطول وجيش ضخم استطاع بهما الوقوف أمام قيصر في صراعهما الأخير (Caesar p. 78) . وكانت نهاية بومبي عندما تمكن قيصر من احتلال الإسكندرية وتأليب أنصار بومبي عليه واغتياله.

وفي عهد قيصر ازداد عدد ملاك الأراضي الذين خافوا من ثورات العامة المتكررة وأخذوا يبحثون عن أراض أخرى خارج إيطاليا فتوجهت أنظارهم نحو مصر، و كان أنطونيوس هو صاحب فكرة السيطرة على مصر مدفوعا بمصالح الملاك الرومان، إذ رأوا فيها متنفسا لهم وفرصة للاستحواز على المزيد من الأراضي دون أن تنقلب عليهم الطبقة العامة الرومانية (Syme, p.290) . ومنذ أواخر عهد قيصر عقد أنطونيوس صلات وثيقة مع البطالمة وخاصة كليوباترا، كما اتخذ من مصر قاعدة في صراعه مع أوكتافيوس، ذلك الصرع الذي انتهى بهزيمة أنطونيوس وكليوباترا في موقعة أكتيوم 31 ق.م.

 ** القمح المصري في العصر الإمبراطوري :

وبعد انتصار أوكتافيوس أغسطس على أنطونيوس في معركة أكتيوم انتهى آخر منافس للنظام الإمبراطوري الروماني، وبذلك استطاع أغسطس إعادة بناء الدولة الرومانية جاعلا معظم مؤسساتها تلتف حول المنصب الجديد الذي ابتدعه وهو المواطن الأول Princepe ، أو الإمبراطور. لكن قبل أن يتمكن أغسطس من تحقيق ذلك واجهته مشكلة، وهو أنه وجد في حوزته جميع فرق أنطونيوس التي وعدها بالأمن فانضمت إليه في آخر مرحلة في الحرب بالإضافة إلى فرقه هو، مما كان يشكل في مجموعه 70 فرقة لم تكن الإمبراطورية في حاجة منها إلا لـ 27 فرقة فقط. وهذه الجيوش يمكن أن تسبب له القلاقل إذا لم يتم تسريحها على الفور، إذ يمكن أن تنضم بسهولة إلى أي مغامر عسكري آخر. وهكذا كان على أغسطس أن يسرح 43 فرقة مجموع جنودها 172 ألف. وتمكن من تسريحهم بالفعل بشراء أراض لهم في جنوب إيطاليا وصقلية وأسبانيا بفضل الذهب الذي استولى عليه من مصر (Syme, p.304). لقد كان الرومان يحلون مشاكلهم العسكرية أيضا بالموارد المصرية، لا مجرد مشاكلهم الاقتصادية. هذا بالإضافة إلى أن أغسطس كافأ أنصاره من الأرستقراطية ورجال الأعمال والتجار بأن منحهم أراض في مصر، وكانت هذه المكافأة هي ما كانوا ينتظرونه لعشرات السنين (Syme,p.380) ، وبذلك استطاع أغسطس كسب ولاء مجلس الشيوخ وتسكينه وشراء القوة التي كانت تدعم آخر بقايا النظام الجمهوري، مما وضع نهاية للحرب الأهلية الرومانية.
عندما نقرأ في كتب التاريخ أن أغسطس هو صانع السلام الروماني Pax Romana والذي ضمن لحوض البحر المتوسط أمنا رومانيا لقرن من الزمان فيجب أن نتذكر دور الموارد المصرية في شراء هذا الأمن الروماني وفي تدعيم السلام الروماني. لقد قام السلام الروماني على هبات من الأراضي الزراعية المصرية وإمدادات هائلة من القمح المصري، وعلى الكميات الضخمة من ذهب البطالمة الذي أتى في الأساس من مقابر الفراعنة.

نظر الرومان إلى مصر كإقليم منتج للقمح ويدر دخلا ثابتا لهم، ولذلك كان أول أباطرة الرومان أوكتافيوس أغسطس هو الذي يحكم مصر بنفسه موليا عليها محاسبه الخاص. وظلت مصر طوال العصر الإمبراطوري ولاية إمبراطورية تخضع مباشرة للإمبراطور تمييزا لها عن الولايات القنصلية الأخرى التي كانت تخضع لإشراف مجلس الشيوخ. وكان هدف أغسطس من أن تظل مصر ولاية تخضع مباشرة للإمبراطور أن يمنع أي سياسي روماني في المستقبل من أن يستغل الإمكانيات المصرية في القيام بتمرد أو انقلاب من خارج إيطاليا على النظام مثلما فعل بومبي وأنطونيوس من قبل (CAH, p. 74) . ومعنى هذا أن مصر كانت قادرة بطبيعتها كإقليم غني ذو موقع استراتيجي على أن تكون ندا للإمبراطورية. ولم تكن هذه الندية عائدة إلى مجرد الإمكانات المادية والموقع الاستراتيجي، بل لأن فقدان مصر كان يكلف استعادة الإمبراطورية لها الكثير. فهي منعزلة في الركن الجنوبي الشرقي من حوض البحر المتوسط والمواصلات البرية إليها صعبة، إذ تحيط بها الصحاري من الشرق والغرب.
 ومنذ عهد أغسطس كانت مصر تمد مدينة روما بثلثي احتياجاتها من القمح، ونستطيع تخيل حجم الإنتاج المصري من القمح عندما نعرف أن ما كان الرومان يأخذونه كضريبة عينية كان يغذي مدينة روما ومدينة الإسكندرية وحاميتها والجيش الروماني المنتشر في أنحاء مصر والهيكل الإداري الضخم الذي يدير شؤون البلاد، إذ كان لمصر أكبر جهاز إداري روماني في الإمبراطورية كلها. كذلك استطاع أغسطس أن يأخذ من مصر ما مقداره مؤونة أربعة أشهر لمدينة روما ولجيشه أثناء حربه مع سكستوس بومبيوس إبن بومبي الأكبر، وبذلك استطاع تعويض إنتاج المناطق التي انضمت لقوات بومبيوس. كذلك استخدم أغسطس موارد مصر لتمويل حملات عسكرية على الساحل الغربي للجزيرة العربية (الحجاز) للسيطرة على طريق التجارة مع الهند والحبشة (Chapot, p.244) ، وحملات أخرى على مناطق الأنباط في شرق الأردن كجزء من استراتيجية الرومان في إيجاد مناطق عازلة مفرغة من أي قوة تهدد حدودهم.

عندما حعل أغسطس مصر تحت الإشراف الإمبراطوري كان نظره بعيدا في ذلك، لأن مصر أثبتت أنها الورقة الرابحة والقاعدة التي استطاع عدد من الأباطرة الرومان بعد ذلك الاعتماد عليها في الوصول إلى العرش الإمبراطوري. ويبدو أن أغسطس أراد من مصر بخضوعها مباشرة للإمبراطور أن تكون سندا للمنصب الإمبراطوري في المستقبل وقاعدة يمكن الاعتماد عليها إذا واجه الأباطرة حربا أهلية أخرى أو مغامرين متمردين من الولايات الأخرى. وقد كان أغسطس نفسه معتمدا على مصر كقاعدة داعمة للمنصب الإمبراطوري، في حين كانت إيطاليا دائما تحت إشراف مجلس الشيوخ، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها إذا ما حدث صراع بين الإمبراطور ومجلس الشيوخ. وبالفعل كانت مصر عاملا حاسما في الصراع بين الفلافيين والكلوديين (68-70 م.) ، فقد تمكن فسباسيان في صراعه مع آخر أباطرة الأسرة الفلافية (جالبا وأوتو وفيتيليوس) من قطع إمداد القمح المصري عن الإمبراطورية والاعتماد على مصر في تجهيز جيش وأسطول تمكن به من هزيمة الفلافيين والوصول إلى العرش الإمبراطوري (Salmon, p.207) .

كما تمكن الرومان بفضل استيراد القمح المصري في القرن الأول الميلادي من تخصيص جزء كبير من زراعاتهم للكروم والمحاصيل التجارية الأخرى مما أنعش صناعات النبيذ والزيوت، وهذا ما أدى إلى تحسن أوضاع حلفاء روما الإيطاليين ومكنهم من المطالبة بحقوق المواطنة الرومانية الكاملة (Morley, p.88) . وأدى الانتعاش الاقتصادي الناتج عن التخصص في المحاصيل التجاريةإلى ازدياد الطلب على الذهب باعتباره وسيطا للتبادل، ولم يجد الرومان إلا ذهب البطالمة ومقابر الفراعنة للبحث عن ذهب جديد .
وظل الرومان في عصر الإمبراطورية يأخذون كميات ثابتة من القمح المصري كل سنة، وهي كمية محسوبة على أساس إنتاجية عالية للأرض، وبالتالي فعندما كانت مصر تواجه نقصا في إنتاجية المحصول كان ذلك على حساب الفلاحين، إذ نقص ما كان متوافرا لديهم للاستهلاك المحلي، بل إن تلك الكمية الثابتة أثرت على ما كان يدخره الفلاح المصري كبذور (Salmon, p. 93-94) . وكان الاستغلال الروماني للفلاح المصري أشد من استغلال البطالمة، وذلك نظرا لأن البطالمة كانوا مستقرين في مصر بينما كان الرومان يسحبون إنتاجية الأرض المصرية إلى الخارج، وهذا ما يفسر لنا كثرة ثورات المصريين ضد الحكم الروماني.

وفي حين أعطت الإمبراطورية درجة كبيرة من الاستقلال والحكم الذاتي لمدن وأقاليم عديدة في حوض البحر المتوسط، أنكرت على مصر أي درجة من الاستقلال، بل وضعت مجموعة من التوجيهات الخاصة للحاكم الروماني لمصر عرفت بمقننة الأيديوس لوجوس التي كانت قانونا صارما سيطر به الرومان على البناء الاجتماعي المصري وفرضوا على المصريين نظاما صارما من الشعائر الدينية. وفي القرن الثالث الميلادي بدأت ثورات المصريين تأخذ الطابع الديني مستخدمة الاستقلال عن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية وسيلة لتوكيد الخصوصية المصرية وبديلا عن الحكم الذاتي المدني. فعندما لم يستطع المصريون تحقيق درجة من الاستقلال المدني والحكم الذاتي في ظل الإمبراطورية مثلما تحقق للأقاليم الأخرى، حاولوا تحقيق ذلك على مستوى العقيدة والتنظيم الكنسي. وبذلك نشأت الكنيسة القبطية المصرية كمحاولة للاستقلال عن روما. لقد كانت حركة تأسيس الكنيسة القبطية المصرية أول حركة اعتراض على الكنيسة الكاثوليكية في تاريخ المسيحية، وسبقت الحركة البروتستانتية الأوروبية بـ 12 قرنا.
 وليست هذه هي نهاية القصة، ففي دراستنا القادمة سوف تكون لنا وقفة مماثلة مع منتَج آخر للفلاح المصري وإمبراطورية أخرى: “الإمبراطورية البريطانية والقطن المصري”.

Categories:   إطلالة تاريخية

Comments