Menu

يوليو بعض الإرث : الطبقة المتوسطة

بقلم : شريف العصفوري

أشد المدافعين عن نظام يوليو هم بكل تأكيد بعض المستفيدين من الإصلاح الزراعي و التعليم الجامعي المجاني ، أقول بعض لأن الرئيس محمد مرسي كان والده أحد مستفيدي الإصلاح الزراعي و نال ثلاثة أفدنة ، و لكن الرئيس مرسي قال في خطبة شهيرة في ميدان التحرير “الستينات و ما أدراك ما الستينات” ، الهوى السياسي يجب أن يكون مفهوما و متوقعا في الخطاب السياسي الآني و ليس في السياق لساعة وقوع الحدث . الرئيس مرسي لم تستفد عائلته من الإصلاح الزراعي فقط و لكنه استفاد شخصيا من التعليم الجامعي المجاني و الفرصة المتكافئة لدراسة المتفوق في الخارج ( الولايات المتحدة – كاليفورنيا ستيت نورثرديج) ، و السؤال المتكرر لدي و سوف أطرحه في آخر المقال .

الطبقة المتوسطة كانت تعدادها في ازدياد من بداية نشوء الدولة المصرية الحديثة ، لمهندسي الري ، و الأطباء و موظفي الدولة ، و المرتبطون بصناعة الخدمات ، من الربع الثاني للقرن التاسع عشرة ، كان نيل قسط بسيط من التعليم يضمن حياة مستقرة و رغدة في الطبقة المتوسطة حتى منتصف الخمسينيات ، الخطاب السياسي لنظام يوليو الذي تصاعد في الشحن الطبقي ضد الطبقة الأرستقراطية و الإقطاعية و كبار الرأسماليين تصاعد حتى العداء الكامل مع قوانين يوليو ١٩٦١ ، ثم وزارة علي صبري بداية من ١٩٦٢ ، و لكن مؤشرات أخرى تدل على الانحياز لم يكن ايديولوجيا بقدر ما كان براجماتيا ، في سنة ١٩٦١ بدأت مصر في تجميع السيارات الخاصة ( كما في الإعلان المرفق ) و بداية التسليم في يوليو ١٩٦٢، السيارة الخاصة كانت تخص مجتمع النصف في المآئة ، فعليا و إحصائيا ، لأن في سنة ١٩٦٥ كان هناك سيارة خاصة لكل ٣٥٠مواطن ( ٠.٣٪) أقل من النصف في المآئة ، السيارة الخاصة شكلت معضلة سياسية في دول الكتلة الشرقية أيضا ، فبينما كانت خطة الاتحاد السوفييتي هي الاكتفاء الذاتي في مركبات النقل و الحافلات من الخطة الخمسية الثانية ١٩٣٥ ، لم يكن انتاج السيارات الخاصة إلا للاستعمال الرسمي أو لدرجة معينة من أعضاء الحزب ، و تأخر انتاج السيارة الخاصة بما يكفي الطلب حتى أوائل السبعينيات ، و حتى سقوط الاتحاد السوفييتي كان امتلاك السيارة الخاصة حلما بعيد المنال .
انتاج السيارة الخاصة في مصر ، لم يكن بتوطين التكنولوجيا أو إنشاء قاعدة تكنولوجية و علمية ، و لكن بتجميع السيارات ، ( بِمَا ذلك السيارة رمسيس التي قيل عنها عكس ذلك فمحركها كان من الشركة الألمانية ان.اس.يو) ، صناعة مركبات النقل و الحافلات كانت موجودة قبل ١٩٥٢، و حتى مع التوسع في الانتاج من مصانع القطاع العام لم يكن هناك خطة للاكتفاء الذاتي ، و تم تكريس طقس الإعلان عن تصدير عشرة سيارات لدولة أفريقية هنا أو هناك ، غالبا ما يكون ذلك عن طريق شركة النصر للتصدير و الاستيراد لأغراض سياسية أكثر منها تجارية .
القصد هنا انه رغم الانحياز السياسي المعلن للفلاحين و العمال ، فإن الطبقة المتوسطة توسعت في العهد الأول لنظام يوليو ، و ازدادت ثراء ، و قبل أن تصل المياه النقية و الصرف الصحي لكل الريف المصري( مازال ٢٥٪ من الريف بدون ماء نقي و ٦٠٪ بدون شبكة صرف صحي سنة ٢٠١٨) ، كان خطط التصنيع و أولوياتها نحو تزويد الطبقة المتوسطة بالسيارات و التلفزيونات و الثلاجات و البوتجازات و غيرها من السلع المعمرة الاستهلاكية ، تلك السلع التي طالت قوائم انتظارها ( في مصر و في دول الكتلة الشرقية ) حتى تفشى السخط على النظام السياسي بسبب قوائم الانتظار للسلع الاستهلاكية .

أحد خبراء الاقتصاد الدكتور علي الجريتلي ، الذي كان من الشباب المتعلم بشهادات من الغرب ، و قريبا جدا من نظام يوليو و وزيرا للاقتصاد و التخطيط ، كتب كتابا عميقا و فريدا في اكتشاف تلك المشكلة الخبيثة التي تواجه الاقتصاديات المخططة مركزيا ، و التي تنجح في رفع مستوى المعيشة ، فبدلا من أن تجني الشكر و العرفان ، تجني بدلا من ذلك الامتعاض و التذمر ، الحل كان في ايجاد اقتصاد مختلط يحاول تلبية طلبات السوق الاستهلاكية المتعاظمة للطبقة المتوسطة النامية في التعداد و الشهية .

قانون التعليم سنة ١٩٦٠ ، هو قانون الذي جعل التعليم العالي مجانيا ( تقريبا) ، لانه كان هناك و مازال مصروفات جامعية رمزية ، نفس القانون جعل الجامعات خاضعة للحكومة ، و عندما صدرت قوانين ١٩٦٢ ، حظر القانون المدارس و الجامعات الأجنبية أو أن تتلقى أموالا من الخارج أو يكون مجلس ادارتها في الخارج ، عندما حاولت لجنة اثناء وزارة علي صبري تسلم الجامعة الأمريكية بموجب القانون ، لجأت الجامعة الأمريكية للرئيس عبد الناصر شخصيا ، و تم ابقاء الجامعة الأمريكية على حالها مع عمل مجلس أمناء محلي ، مع بقاء استقلالها رغما عن القانون بحماية شخصية من عبد الناصر ،و في حوادث تالية بوساطة من محمد حسين هيكل ، يدافع كثيرون عّن مبدأ “تكافؤ الفرص ” الذي أرسته حكومة “الثورة ” ، و لكن نفس الحكومة أنشأت فروعا لجامعة القاهرة بالخرطوم أو ببيروت ، لتكون بابا خلفيا لتجاوز تكافؤ الفرص ، و في حالة الجامعة الامريكية يكون التجاوز خاصا بالمصروفات .

القصد هنا أن تطلعات الطبقة المتوسطة المتنامية أرغمت حكومات نظام يوليو على تصرفات و سياسات متناقضة لإشباع حاجاتها من التعليم أو العلاج الخاص أو الاستهلاك ( تلفزيون ، اجهزة كهربائية ، سيارات ) . هذا إلى جانب أن الطبقة السياسية الجديدة (ما بعد يوليو ١٩٥٢) التي كانت في الصدارة اقترضت نفس الأنماط الاستهلاكية و الاجتماعية للطبقة التي حلت محلها ماعدا خلع الطربوش و الألقاب ، الألقاب عادت في أواخر عهد السادات بطريقة غير رسمية .

الطبقة المتوسطة المصرية توسعت جدا اليوم و ربما تشكل أكثر من٦٠٪ من السكان و قوة العمل ، و لكن شرائح واسعة منها التي ترتبط بالعمل بالحكومة أو القطاع العام أو المؤسسات الاقتصادية العامة ، تعيش حالة تآكل القدرة الاقتصادية و ضيق معيشي في ظل تنامي التطلعات الاستهلاكية دائما . فمثلا كم من موظف بريد اليوم يستطيع أن ينجب عشرة و يقوم بتعليمهم و توظيفهم كما فعل والد جمال عبد الناصر ؟ في الحقيقة جمال عبد الناصر جاء من الطبقة المتوسطة و كان يحمل قيم و أخلاق و تطلعات الطبقة المتوسطة حتى يوم مماته ، بعض شركاؤه في الحكم تطورت تطلاعتهم من الطبقة المتوسطة إلى الطبقة العليا المتنفذة و أرادوا الحياة حياة الأمراء و في قصورهم .

توسع تعداد الطبقة المتوسطة حدث في العالم كله ، تحت الرأسمالية و الشيوعية و حتى النظم الاشتراكية التي تكرس ضريبة تصاعدية تصل إلى حد المصادرة ( السويد و النرويج و الدانمرك ) ، بل ان تراكم للثروة و تكاثر الأثرياء حدث في الدول صاحبة الضريبة التصاعدية المصادرة بسبب ثورة تكنولوجيا المعلومات و الانتقال السريع لرؤوس الأموال عبر الحدود.

المردود الاجتماعي أو الاقتصادي لبعض السياسات كان إما مبالغا فيه أو متناهيا في التجاهل ، العالم الجديد يجري نحو الإثراء و التوسع بأسرع من قدرة النظم النظرية السياسية على الاستيعاب أو الإحتكام ، التعليم و العلاج المجاني لجميع المواطنين حق يتأكد كل يوم ، إلى جانب السكن الملائم و القدرة على الحصول على فرص متساوية للتقدم و الصعود الاجتماعي و نيل الوظائف العامة و الخاصة في حماية النظام و القانون ، ما يعيق الرغبات الخيرة في التحقق هو تردد النمو الاقتصادي و زيادة السكان فوق قدرة الموارد الطبيعية و الرأسمالية على الاستيعاب .

ما أحبط تجربة يوليو في التعليم و العلاج ، قلة الموارد و إساءة الاستخدام و بكل تأكيد سوء الإدارة و النزوع نحو المظهرية و الشخصنة ،لا يمكن تصور أن كل سيارة أو غسالة أوتوماتيك يجب أن تكون نتيجة لعبقرية الحزب أو الرئيس أو بعد نظرتيهما. نظريا و لفترة قصيرة كان لدينا مجتمع بمساواة كاملة و خصوصا بين الذكور و الإناث في التعليم و العلاج و التوظيف مع حقوق متساوية في الانتخاب و الترشح في الانتخابات العامة ، تلكم هي أعظم انجازات يوليو و أولها في الاسترداد و التراجع .

الأسئلة : هل الحق في التعليم و العلاج هو حق كوني دون محددات لجودة التعليم أو حاجات المجتمع و قدرته على الاستثمار و الانتاج أو حتى استيعاب قوة العمل ؟كيف يمكن إدارة قوة العمل في اقتصاد لا ينمو بالقدر المطلوب ؟ أيهما أفضل البطالة المقنعة أم السافرة ؟ الحد الأدنى للأجور يبعث على التكاسل و يشجع البطالة أم يزيد الطلب و الاستهلاك ؟ الضرائب التصاعدية هل تحرم المجتمع من التراكم الرأسمالي و المبادأة الفردية أم تشجع قوة العمل على الولاء و الانتظام ؟

Categories:   أعمدة الرأى

Comments