Menu

المولد النبوي الشريف بين الصوفية والسلفية

بقلم : طارق أحمد مصطفى

تأتي ذكرى المولد النبوي الشريف كل عام – على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام – ويتجدد معها جدل عقيم يقوده بعض متطرفي التيار السلفي الوهابي للإنكار على جموع المسلمين احتفالهم بهذه الذكرى العطرة التى ينتظرها المسلمون من العام إلى العام ليحتفلوا بأهم حدث فى تاريخ الأمة المسلمة وهو يوم أن أذن الله تعالى لهذه الأرض أن تستقبل خير خلق الله كلهمِ، من أرسله الله تعالى لهذه الدنيا رحمة للعالمين المسلم منهم وغير المسلم، رحمة لبني الإنسان ولكافة خلق الله، تأكيداً منهم على كل المعاني النبيلة والراقية التي تحملها هذه الذكرى، وما تحمله قيمة النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين وللبشرية كلها.
وأقول أن من يقود هذه الحملة هم البعض – وليس الكل – من المنتمين لهذا التيار الأكثر تطرفاً، لأنه ليس كلهم لديه هذه الجرأة لينكروا على المسلمين احتفالهم بمولد نبيهم، وإن كان أغلبهم يمتنع عن الاحتفال مخافة أن يقع فى إثم بسبب التشويه الفكري الذي حدث لهم بسبب الفتاوى المتشددة من بعض كهنة هذا التيار الوهابي المتطرف، وهم نفس الذين نبت الفكر الداعشي التكفيري من أفكارهم، الذين يعتبروا أن هذا الاحتفال بدعة لم ترد في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وبالتالى فهي داخلة فى قول النبي صلى الله عليه وسلم بأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار، فتخيل أن المسلم الذي يحتفل بذكرى مولد نبيه يعتبر فى نظر هؤلاء قد عرّض نفسه للنار، وهو قول لا يحتاج أصحاب الفطرة السليمة لدليل حتى يتأكد لهم تطرفه وضلاله.
وقد بلغ من تطرف هؤلاء أن بعض خطباءهم يمتنعون عن ذكر أي شيئ متعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم وشمائله وخصائصه وفضل الصلاة عليه عند اقتراب هذه الذكرى المباركة حتى يخالف من يعتبرهم أهل بدع وضلال، وبلغ من بؤس بعضهم أنهم يحرمون على أنفسهم وأولادهم تذوق الحلوى التي يسميها المسلمون “حلوى المولد” حتى لا يقعوا فى ما يعتبرونه بدعة وخللاً في العقيدة، وبلغ التشوه الفكري ببعضهم أنه ينكر على المسلمين أنهم يبالغون فى الاهتمام بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وإحياء لياليهم بكثرة ذكر النبي والصلاة عليه والتحدث عن شمائله، ظناً منهم أن هذا قد يدخلهم فى باب الشرك الذي وسعوه وتشددوا وبالغوا وضيقوا فيه على أنفسهم وعلى المسلمين، فأي شرك فى أن يحتفي المسلم بأعظم هدية من الله تعالى إليهم وإلى الدنيا بأسرها، ويطبقوا أمر الله تعالى لهم في قوله تعالى “إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا”، وأي ضلال أعظم من أن يضع هؤلاء أنفسهم ضمن من قال تعالى فيهم “وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ”.
يقارن المسلم العادي ويستفتي قلبه بين ما يطرحه هؤلاء المتطرفون المتشددون وبين ما يطرحوه العلماء المحققون من ذوي المشرب الصوفي، الذي يعتبرون أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم والتعلق به هو أمر مؤسس فى العاطفة الدينية للمسلم، وهذه العاطفة هي المنبع الحقيقي للتأسي به واتباع سنته والتحلي بأخلاقه وفهم أوامر الله ونواهيه كما أنزلها على هذا النبي الخاتم صلوات الله تعالى عليه، ويعلمّون الناس أن هذا الارتباط الوجداني القلبي لن يتحقق بالمباحث النظرية بقدر ما يتحقق بتأكيد هذا الارتباط الوجداني به صلى الله عليه وسلم من خلال كثرة الصلاة عليه فرادى وجماعات وعقد المجالس لتدارس سيرته وذكر شمائله وقراءة مدائحه والتنافس فى تدبيج صيغ للصلاة عليه تحتشد بكل العبارات التي تؤكد ما له من مكانة عظيمة لا تدانيها مكانة عند الله تبارك وتعالى، وهذا الارتباط العاطفي القلبي بالنبي صلى الله عليه وسلم لا غنى عنه من أجل تصحيح عقيدة المسلم. فهل عرف المسلمون الله تعالى إلا عن طريق نبيه، وهل آمن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم بالله هذا الإيمان العميق إلا بعد أن ارتبطوا بشخصية النبي عليه الصلاة والسلام وصدقوه وأحبوه أكثر من أنفسهم وآباءهم وأولادهم والناس أجمعين، فإن تحقق لهم ذلك وهم قد عاصروه صلى الله عليه وسلم ورأوه وتعاملوا معه مباشرة، فكيف للمسلم من الأجيال التالية أن يتحقق بهذه المشاعر التي تستخرج منه السلوك الإسلامي الحسن والأخلاق النبوية الراقية إلا من خلال ما يورثه المسلمون بعضهم بعضاً جيلاً بعد جيل من محبة للنبي عليه الصلاة والسلام وتعلق به شخصاً وروحاً وسيرة وصفاتاً، والتي إن خفتت وخفّت وطئتها وضعُف أثرها فى القلوب لم يبق من الدين شيئ على الحقيقة.
ولعله من الملفت للنظر أن ظاهرة الإلحاد التي انتشرت بين شباب المسلمين فى السنوات الأخيرة لم تخرج من ذوي المشرب الصوفي ولا من عوام المسلمين الذين تحركهم فطرتهم السليمة، ولكنها خرجت ممن كانوا يوماً ما من ذوي الفهم السلفي الوهابي المتطرف، ذلك الفهم الذي لا يحتفي بالإيمان القلبي ولا بالعاطفة الدينية بقدر ما يحتفي بالفهم العقلي النظري الأكاديمي الذي لا يُشبع الروح والقلب، لذلك كثيراً ما تكون قلوب هؤلاء قاسية ممتلئة بالجفاء وإيمانهم هشاً واهياً في مواجهة المعضلات العقلية والإشكاليات الواقعية التي يقابلها المسلم المعاصر. فهل يعلم هؤلاء أي جريمة يصنعونها بالمسلمين كلما أثاروا فيهم الحرج والتردد فى إظهار عاطفتهم تجاه نبيهم والتعبد لله تعالى بمحبته صلى الله عليه وسلم وبكل ما ينمي تلك المحبة ويعمقها ويؤكدها، هل تواضع هؤلاء قليلاً وفكروا أنهم ربما هم المقصودون بقول الله تعالى: “قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا”، فيرون أثر ما قدموه للعالم من فكر منحرف عقيم على المسلمين وعلى العالم بأسره، ويسألون أنفسهم بصدق: هل هذا حقاً ما أراده الله تعالى من ارساله لرسوله وإنزاله لكتابه!!
اقرأ – عزيزي القارئ – إن شئت أبيات الإمام البوصيري في بردته، والتي صُنفت كأعظم قصيدة أُلفت فى مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم :
دَع مــا ادَّعَتهُ النصارى في نَبِيِّهِـمِ * واحكُم بما شئتَ مَدحَاً فيه واحتَكِـمِ
وانسُبْ الى ذاتِهِ ما شـئتَ مِن شَـرَفٍ * وانسُب الى قَدْرِهِ ما شئتَ مِن عِظَـمِ
فَــاِنَّ فَضلَ رســولِ اللهِ ليـس له * حَـدٌّ فَيُعـرِبَ عنـهُ نــاطِقٌ بِفَمِ
لو نـاسَـبَتْ قَـدْرَهُ آيـاتُهُ عِظَمَـاً * أحيـا اسمُهُ حين يُـدعَى دارِسَ الرِّمَمِ
لم يمتَحِنَّــا بمـا تَعيَــا العقولُ بـه * حِرصَـاً علينـا فلم نرتَـبْ ولم نَهِمِ
أعيـا الورى فَهْمُ معنــاهُ فليسَ يُرَى * في القُرْبِ والبُعـدِ فيه غـيرُ مُنفَحِمِ
كـالشمسِ تظهَرُ للعينَيْنِ مِن بُــعُدٍ * صغيرةً وتُكِـلُّ الطَّـرْفَ مِن أَمَـمِ
وكيفَ يُــدرِكُ في الدنيــا حقيقَتَهُ * قَــوْمٌ نِيَــامٌ تَسَلَّوا عنه بـالحُلُمِ
فمَبْلَغُ العِــلمِ فيه أنــه بَشَــرٌ * وأَنَّــهُ خيرُ خلْـقِ الله كُـــلِّهِمِ
أريدك أن تتخيل معي أن تلك القصيدة التي تهتز لها قلوب ملايين المسلمين طرباً وتهتز بها قلوبهم شوقاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وتغنى بها آلاف المنشدين على امتداد العالم الإسلامي، ويستحضرها أهل التصوف فى مجالسهم تجديداً لأشواقهم إلى رسول الله، وتلقاها المسلمون بالقبول عبر العصور، ورغم كل ذلك فإن ذلك التيار المتطرف المتشدد الذي نتحدث عنه يجعلونها ومؤلفها رضى الله عنه هدفاً لطعناتهم المتكررة، فيطعنون فى عقيدة الرجل ويكتبون عن القصيدة المطولات اتهاماً لها بأنها تروج للشرك بالله، ليس بأي غرض سوى أنهم يريدون للمسلمين أن يبتعدوا عنها ويتحرجوا من قراءتها، ولو كانت تلك القصيدة أقل شهرة لما تكبدوا كل ذلك التشنيع عليها.
ومن المؤسف أن دعاوى هذا التيار المتطرف قد تغلغلت بين المسلمين في السنوات الأخيرة لانتشار دعاتهم على الفضائيات وكثرة مواقعهم على الإنترنت وإنفاقهم ببذخ على كتيبات وأشرطة تقدم الإسلام بحسب فهمهم، فاصاب الكثير من المسلمين الحرج من كل ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم من مظاهر التكريم والتعظيم، مخافة أن يقعوا فى الشرك على حد زعم هؤلاء المتطرفون، ويسارع بعضهم بالإنكار على غيرهم وخاصة من ذوي المشرب الصوفي، والخلط بين سلوك أهل العلم والمعرفة منهم وبين أفعال بعض العوام التي تظهر فى المناسبات الصوفية وينكرها عليهم المتحققون المتعلمون.
والمسلم الحسن الإسلام يغلّب حسن الظن بإخوانه من المسلمين والمعذرة لهم، فإذا سمع أو قرأ شيئاً أو شاهد أمراً استغلق عليه فهمه فإنه يغلب حسن الظن ويأخذ ما أشكل عليه على المحمل الحسن، ويتأول الأمور التي لا يفهمها على أحسن الوجوه، فما بالك لو كان ما لم يفهمه منسوب لأحد المشهور عنهم العلم والتقوى وحسن الأخلاق وربما يكون أحدهم أقرب إلى الله وأعرف به من كثير ممن ينكر عليه، وليس الأمر متعلق بحسن الظن فقط، ولكنه متعلق كذلك بالتواضع واتهام النفس بنقص المعرفة ، وترويضاً للنفس للتغلب على شهوة تزكية النفس والإعجاب بها، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة والخلق العظيم، صاحب المولد الشريف الذي علينا أن نجدد احتفالنا به كل عام، وأن نعلن محبتنا له وتعلقنا به ونقويها في نفوسنا في كل يوم وليلة.
فصلاة وسلماً من الله عليك وعلى آلك يا أشرف خلق الله وخاتم رسل الله، ما طلعت شمسٌ أو لاح كوكبُ في سماه.

Categories:   أعمدة الرأى

Comments