Menu

2020 . . عساه خيراً

بقلم: طارق أحمد مصطفى

يُحكى أنه كان هناك “مَلِكٌ” له جليس يعتبره صديقه الصدوق وناصحه الأمين، كان الجليس لا يفترق عن الملك لا فى حلٍ ولا فى ترحال، وكانت لهذا الجليس كلمة يرددها كثيراً حتى صارت لازمة له، وهي قوله: “عساه خيراً” ، ومن كثرة ترديده لها كثيراً ما أثارت هذه اللازمة ضحك الملك وتندره هو وباقي جلساءه ووزراءه وزواره.
وكان هذا الملك يهوى الصيد بالبراري، وذات مرة فى إحدى رحلاته للصيد، وبينما جليسه المذكور بصحبته، رفع حربته ليصيد بها أحد الغزلان، وإذ بسلاح الحربة المدبب والمشحوذ بعناية يصيب إصبعه إصابة بالغة حتى اضطر الطبيب إلى قطع هذا الإصبع.
وبينما الملك على هذا الحال، وهو متألم أيما ألم، وحزينٌ أيما حزن، وإذا بجليسه بجواره يواسيه على طريقته، قائلاً له: لا تحزن يا مولاي . . “عساه خيراً”، وهنا لم يتحمل الملك كلمة صديقه الأثيرة هذه المرة، واشطاط غضباً، قائلاً: اتسخر بي يا هذا!! . . كيف يكون قطع إصبعي خير!! . . كيف يكون ألمي وإسالة دمي خير من أي نوع!! وبلغ بالملك الغضب أنه أمر حراسه بتكبيل هذا الجليس المسكين واقتياده إلى السجن، غير مبالٍ بتوسلاته ومبرراته.
وبعد أن عاد كبير الحرس إلى الملك، أخبره بتنفيذ أوامره، واراد أن يسري عنه ويتودد إليه فقال: أتدري يا مولاي . . ما أعجب هذا الرجل . . لقد سمعته ونحن نغلق عليه باب السجن يقول بينه وبين نفسه “عساه خيراً” ، وهنا ابتسم الملك من خلف حزنه قائلاً: دع هذا الأحمق يتعلم الدرس!
وبعد فترة من الزمن ، أراد الملك أن يستعيد نشاطه من جديد، وطلب أن يجهزوا له رحلة للصيد تتوغل داخل الغابة طمعاً في مغامرة جديدة يُشبع بها هوايته، وذهب الركب بالفعل وعسكروا فى منطقة على مشارف الغابة، وأخذ الملك قوسه وسهامه وانطلق خلف غزالة لاحت له فى الأفق، وأخذ يتوغل خلفها بين الأشجار وهي تجري منه فى رشاقة، حتى شاهدها من بعيد، فأخذ سهمه ونصب قوسه وهم باصطيادها إلا أنه فوجئي بنمر ضخم يخرج من بين الأحراش البعيدة فينقض على الغزالة، وهنا أصاب الملك رعب بالغ وظل يجري ويجري قبل أن يراه النمر، وبعد أن جرى فترة من الزمن وقف ليلتقط أنفاسه، إلا أنه شعر بسكون غريب يخيم على المكان، وتلفت حوله فلم يدر إلى أي اتجاه عليه أن يذهب، وأدرك حينها أنه قد ضل الطريق إلى المعسكر الذي ترك به جنده وحاشيته، فتملكه الرعب.
تلاحقت أنفاس الملك وهو يتخبط بين أوراق النباتات الضخمة، وظل على هذا الحال ساعة ثم فكر أن يبقى مكانه حتى يأتي إليه الجند الذين هم بالتأكيد يبحثون عنه الآن، وقبل أن تختمر فكرته شعر بوخذة مؤلمة فى كتفه، ثم أحس بدوار غريب وخدر يسري فى أنحاء بدنه، وسقط على الأرض بينما آخر ما شاهده كانت وجوه لكائنات أشبه بالبشر تتسلل نحوه من بين أوراق النباتات.
وعندما بدأ الملك في الإفاقة من إغماءته، رأي نفسه مربوطاً فى جذع شجرة وأمامه نار مشتعلة بينما قبيلة من تلك القبائل البدائية التي تسكن الأحراش يلتفون حولها ويرقصون في صراخ وهستيريا، عراة الصدور، مشعثوا الشعور، ملطخو الوجوه والأجساد بألوان عجيبة، وهنا تملكه رعب كبير وظل جسده ينتفض وقلبه يرتجف، وأدرك أنها نهايته.
وبينما هو على هذه الحال، إذ خرج من بين الجموع رجل مسن محني الجسد، بيده عصا طويلة، صرخ صرخة عالية فصمتوا جميعاً، واقترب منه ببطئ وهو يتمتم بأصوات عجيبة، فبدا أن هذا المسن هو كاهن هذه القبيلة وأنه يجري طقوسه قبل أن يذبحوا قربانهم البشري الذي سيلقونه بالنار، وبينما الكاهن العجوز يدور حول الملك المرتجف المذعور المقيد بالحبال، توقف فجأة ونظر إلى كف الملك ثم أمسك به ورفعه جهة عينيه ولمح مكان الإصبع المقطوع، فتوقف عن التمتمة واستدار إلى الجموع ورفع يديه وصرخ عدة مرات ثم مشى واختفى مرة أخرى، وكانوا لا يقدمون إلى النار إلا قرباناً بشرياً مكتمل الأعضاء، وتقدم أحد الأشخاص وفك الحبل المربوط حول الملك: ودفعه عدة دفعات قائلاً له بلغة واضحة فهمها الملك: “اذهب من هنا”.
لم يصدق الملك نفسه، وجرى مبتعداً رغم الظلام الدامس، وبعد فترة من الهرب لمح مشاعل جنوده الذين كانوا يبحثون عنه، وعاد بصحبتهم وهو يرتجف، وقد أصابه الإعياء. وظل يهزي بما لم يفهمه الجند يقول: أحضروه . . أعيدوه . . عساه خيراً عساه خيراً. وبمجرد أن وصل قصره لم ينتظر حتى يغتسل ويستريح ولكنه طلب من كبير الحرس أن يذهب من فوره إلى السجن ليحضر صديقه المسجون.
وقف الصديق أمامه مذهولاً قائلاً: حفظ الملك مولاي . . ماذا ألم بك سيدي ؟!
قال له: لقد ظلمتك يا صديقي . . سامحني . . أنت كنت على صواب . . وأنا الذي تعلمت الدرس . . لقد انقذني اصبعي المقطوع الليلة من ميتة بشعة . . صدقت لقد كان حقاً “عساه خيراً” . . اذهب إلى دارك الليلة وعد في الصباح فلن نفترق بعد ذلك أبداً.
وفي الصباح، كان الملك قد استعاد عافيته، وحضر صديقه وجليسه، فالتزمه، وأجلسه بجواره، وقدم له الطعام، ثم قال له: ولكن أخبرني . . هكذا كان قطع إصبعي خيرٌ لي . . ولكن أي خيرٌ لك في ظلمي لك وسجني أياك، وقد سمعك الحرس عندما ادخلوك السجن تقول “عساه خيراً”.
وهنا ابتسم جليس الملك وقال: لقد كان خيراً يا مولاي . . فأنت تعلم أني جليسك ورفيقك الذي لا يفترق عنك . . ولولا سجني لكنت معك حين امسكت بك تلك القبيلة الهمجية ولأخذوني مكانك .
انتهت القصة . . .
وحيث أننا على مشارف عام جديد (2020) فإنني أهديها إلى القراء الأعزاء كي يتأملوها ويجعلوا مبدأهم خلال العام الجديد وفي كل وقت “عساه خيراً”
فلنسقبل إذاً عامنا الجديد بتفاؤل وأمل وحسن ظن بالله عساه يأتي كما توقعناه وأفضل مما توقعناه.
وكل عام وأنتم بخير ، ،

Categories:   أعمدة الرأى

Comments