Menu

هاتوا الدفاتر تنقرا

بقلم: طارق أحمد مصطفى

جاء فايرس كورونا وانفتحت معه دفاتر الحساب، حساب الصغار للكبار، حساب الرعية للراعي، حساب السائل للمسئول، والعكس بالعكس. فتح علينا الحجر المنزلي بوابات الفكر والمراجعات وتقليب الدفاتر والإتيان بالقديم والجديد، كشفنا ذلك الفايرس اللعين جميعاً أمام بعضنا البعض وأمام أنفسنا، عرانا، والعجيب أننا وجدنا كافة الحقائق والمواقف جلية واضحة لا لبس فيها، ووجدنا كل الوعود البراقة التي لم تنفذ معلقة على المشانق أمام أعيننا، وكل الأحلام التي بنيناها وجدناها جثثاً هامدة مطروحة فوق بعضها البعض فى الحديقة الخلفية، أعمارنا التي راحت وشبابنا المسفوح وجدنا آثار منها كذلك منثورة على جنبات الطريق، وكأن العمر كله أوهام في أوهام، المباني الضخمة التي تسترنا مجرد بيوت عنكبوت، والكيانات المهيبة التي نتشدق بها ليست سوى علب كارتونية، والأسماء الرنانة التي تختال علينا ما هم إلا غثاء سيل.
ويمر العمر أمامنا فى لحظة! البياض الذي ضرب شعورنا شاهد على الفرص التي أضعناها، حساباتنا البنكية الفارغة شاهدة على سذاجتنا وغباءنا، ولهاثنا المستمر وراء التفاهات دليل على خيبتنا الثقيلة، وعراكنا المتواصل على سفاسف الأمور حجة علينا أننا نستحق ما نحن فيه. هذه حقيقتنا، وهذا تمامنا، وذلك مستوانا، وتلك كفاءتنا، نحن أغبياء مغفلون كسالى عاجزون حمقى، نحن عار العالم، لم نحافظ على تراث أجدادنا، تجمعنا راقصة وتفرقنا عصا، غير مؤهلين للديمقراطية ، شوارعنا تحكمها الفوضى، حركة المرور لدينا مثل المكرونة الاسباجيتي، نحن أضحوكة منتخبات كأس العالم، أصحاب ال Egyptian 5 minutes ، آكلي الطعمية والملوحة والكرشة، ومن أقل خمس دول في العالم نظافة و التزاما بالمعايير الصحية ، وليس لدينا الوعي لنلتزم بالإجراءات الاحترازية، ماذا تنتظر منا !!
وعندما تُراجَع المواقف تنفتح الجراح، ويقبل الناس بعضهم على بعض يتلاومون، يلوم الرعية الراعي، ويلوم الراعي الرعية، ويلقي كل منهم كرة اللهب في حجر الآخر، ولماذا يلوم أحدنا الآخر والكل ملطخ الثوب !! لماذا نلوم الصنايعي لأننا تسلمنا منه الشغل الردئ دون فحص ؟! . . لماذا نلوم البائع النصاب ونحن لم نراجع وراءه بقية الحساب ؟! . . لماذا نلوم المعلم الذي باع لنا الامتحان ونحن من دفعنا له ؟! . . لماذا نلوم الموظف الذي تركناه يفتح الدرج من أجل أن نأخذ ما لا حق لنا فيه ؟! . . لماذا نلوم المدير الذي باع الشركة للمنافسين بعد أن اشترى صمتنا ؟! . . لماذا نلوم القائد أو النائب أو النقابي غير الأمين وغير الكفء ونحن من ننتخبه المرة تلو الأخرى ؟! . . لماذا نلوم المسئول الذي تركنا له الحبل على الغارب تكاسلاً عن أداء ما علينا من واجب المحاسبة ؟!
صدق أحمد زكي حين قال: كلنا فاسدون لا أستثني أحداً ، ولكن رغم ذلك ليست المسئولية واحدة، ولا الأعباء واحدة، فعلماء الإدارة قد وضعوا قاعدة تناسُب السلطة والمسئولية، أي أن مسئوليتك تكون فى حدود سلطتك، وأنه لا ينبغي أن تسائل الشخص إلا بعد أن تمنحه السلطة التي تخول له الفعل، فمن كانت سلطته محدودة تكون مسئوليته محدودة ، ومن كانت سلطته غير محدودة تكون مسئوليته غير محدودة. وما المسئولية إذاً ؟! . . فهي إما مسئولية مجتمعية قانونية، أو مسئولية أخلاقية دينية أو مزيج من الاثنين. وما السلطة إذاً ؟! . . إنها القدرة على الاستخدام الشرعي للقوة للتحكم فى سلوك الأفراد وفي توزيع وتخصيص الموارد. لذلك من الطبيعي والمنطقي أن يكون رأس هرم السلطة فى أي كيان هو الأعلى مسئولية . لذلك يكون لوم الرعية للراعي أكثر منطقية، حيث أنه من يملك السلطة والقدرة على الفعل وتحريك الأدوات واستغلال الموارد من أجل تحقيق المصلحة العامة في إطار العرف أو القانون أو العقد الاجتماعي. أما لوم الراعي للرعية فهو أمر ملتبس مربك للعلاقة بين الطرفين. فكيف تلوم من لا سلطة له !! كيف، وفي بعض النظم تنتزع من الفرد أي سلطة حتى على نفسه، فهو مسلوب الإرادة تماماً دوره فقط أن يدور فى فلك المسئول أو القائد أو الحزب أو التنظيم، أوالجهاز القوي المسئول عن كل شيء، ويميل معه حين يميل.
كيف إذاً يلوم الراعي رعيته لأنهم جهلة غير أكفاء وهو لم يوفر لهم تعليماً وتدريباً جيداً ؟! . . كيف يلوم المعلم تلاميذه لعدم فهمهم بينما هو لا يجيد الشرح ؟! . . كيف تلوم الأم جليسة طفلها لإهمالها في ولدها بعد أن كلفتها بمهام أخرى عطلتها عن رعاية الصغير؟! . . كيف يتهم المدير مرؤوسيه بالتخاذل فى العمل وهو لم يمنحهم أجوراً لائقة وتحفيزاً مناسباً مرتبطاً بالأداء ؟! . . وكيف يلومهم للتأخر فى تسليم ال Target وهو لم يوفر لهم مستلزمات العمل ولا المناخ الملائم ؟! . . كيف تلام جارية لم تطبخ وسيدها لم يُكلّف ؟! . . كيف يتهم المسئولُ المواطنَ بالفساد وهو لم يفعّل القانون على الجميع واستثنى نفسه ومحاسيبه ؟! . . كيف يلقي اللوم عليهم بسبب القذارة والإهمال وهو لم يقم بمسئوليته تجاه كل هذا ؟! . . كيف يلام أهل البيت على الرقص ورب البيت ضارب بالدف؟ . . لماذا دائماً تلام الدابة التي تعثرت وهي لم تجد من يمهد لها الطريق ؟! . . المعيار هنا غير منضبط .
وحيث أن المسئول – في كل مكان وكيان – قد استمرأ إلقاء المسئولية على الناس، كي يتنصل ويتملص، وحيث أنه يجد دائماً من ينافقه ويوافقه ويبرر له ويختلق له الحجج، وحيث أنه مطمئن دوماً أن الأقوياء يدعمونه ويقدمونه ويساندونه ويعيّنونه ويتخطون به الرقاب، وحيث أن الناس قد تعبت من المقاومة، ويأست من المدافعة، واكتفت من المواجهة، وخافت من مصير من تم إقصاءهم وإهانتهم وفضحهم والتنكيل بهم، فتقبّل الكثير منهم اللوم وطأطأ رأسه خجلاً، وكبّر الكثير منهم دماغه وعاش لنفسه أو فقد الثقة فى نفسه أو تواطأ مع اللائمين المتسلطين ضد نفسه، وحيث أن كل ذلك كائن تظل الحقيقة تائهة هائمة غير محددة، ويبقى المخطئ الحقيقي بلا حساب ولا تحميل للمسئولية، ويبقى التاريخ شاهدٌ علينا جميعاً رعاةً ورعية. وإن كنتم نسيتم ما جرى، عودوا لعنوان المقال !!

Categories:   أعمدة الرأى

Comments

  • Posted: 29 يونيو، 2020 17:07

    احمد محمد مصطفى

    حاله من السخط على الاحوال العامة فى المجتمع ، وتشعر بان الكاتب لديه شعور بقلة الحيلة وان الجميع محاصر ومعدوم الصلاحية ، وان الخوف من المجهول هو سيد الموقف، واعتقد اننا جميعا محتاجون الى الدعم لمواجهة حالة الاكتئاب التى يشعر بها الجميع .
    • Posted: 29 يونيو، 2020 17:54

      طارق

      ده كده اكيد حضرتك تعرف الكاتب شخصياً
    • Posted: 11 يوليو، 2020 20:34

      WEA

      نشكر رأي سيادتكم وجزاكم الله خيرا
    • Posted: 11 يوليو، 2020 20:44

      WEA

      رأي سيادتكم يحترم وجزاك الله كل خير