عن بن الفارض ومعاناته في الحب
بقلم : طارق أحمد مصطفى
– – – – – – – – – – – – – –
يروى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَادَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ ؟
قَالَ: نَعَمْ كُنْتُ أَقُولُ اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: سُبْحَانَ اللَّهِ لَا تُطِيقُهُ ، أَفَلَا قُلْتَ اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . قَالَ: فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ.
أتذكر هذا الحديث الشريف كلما قرأت أشعار العشق الإلهي للإمام والعالم والفقيه “عمر بن الفارض” أحد كبار الصوفية والملقب بسلطان العاشقين والمتوفى في 632 هجرياً ومدفون بضريحه المشهور بالأباجية قرب المقطم بالقاهرة.
ومن تلك الأشعار قوله:
يا مانِعي طيبَ المَنامِ، ومـانحي * ثوبَ السِّقامِ بهِ ووجدي المتلفِ
عَطفاً على رمَقي، وما أبْقَيْتَ لي * منْ جِسميَ المُضْنى، وقلبي المُدنَفِ
فالوَجْدُ باقٍ، والوِصــالُ مُماطِلي * والصّبرُ فانٍ، واللّقاءُ مُسَوّفي
ومنها قوله:
أخفيتُ حبَّكمُ فأخفاني أسىً حتى * لعَمري، كِدتُ عني أختَفي
وكَتَمْــتُهُ عَنّي، فلـــــو أبـــــدَيْتُهُ * لَوَجَدْتُهُ أخفى منَ اللُّطْفِ الخَفي
ولقد أقولُ لِمن تَحَرّشَ بالهَــوَى * عرَّضتَ نفسكَ للبلا فاستهدفِ
أنتَ القتـــيــلُ بأيِّ منْ أحـــببتهُ * فاخترْ لنفسكَ في الهوى منْ تصطفي
وكذلك قوله:
هو الحُبّ فاسلم بالحشا ما الهَوى سهلَ * فما اختارَهُ مُضْنى به وله عقْلُ
وعِـــشْ خـــالياً فالحُـــبّ راحـــتُهُ عَناً * وأَوّلُهُ سُقْمٌ وآخرُهُ قَتْلُ
وقوله:
وتلافي إنْ كـانَ فيهِ ائتـــلافي * بِكَ، عَجّلْ بِهِ، جُعِلْتُ فِداكا!
وبما شئتَ في هواكَ اختبرني * فاختياري ماكانَ فيهِ رضاكا
وقوله:
زدني بفرطِ الحبِّ فيكَ تحيُّرا * وارحمْ حشى ً بلظي هواكَ تسعَّرا
وإذا سألتكَ أنْ أراكَ حقــيقة ً * فاسمَحْ، ولا تجعلْ جوابي:لن تَرَى
يا قلبُ أنتَ وعدتَني في حُبّهمْ * صبراً فحاذرْ أنْ تضيقَ وتضجرا
إنّ الغَرامَ هوَ الحَياة ، فَمُتْ بِهِ * صَبّاً، فحقّكَ أن تَموتَ، وتُعذَرَا
كلما قرأت تلك الأشعار وأمثالها اتسائل: كيف للإنسان ببشريته أن يتحمل تعرضه لكل هذه الجرعة المكثفة من الشوق والعشق للذات الإلهية دون أن يتلف، وقد قال الله تعالى لموسى حينما سأله “رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ” فرد عليه سبحانه “… لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا”
يروى أن بن الفارض توجه إلى مكة لأداء فريضة الحج، وهناك هام فى جبال مكة وانعزل عن الناس، وقيل ان عزلته تلك امتدت إلى خمسة عشر عاماً، وهناك بلغ به الوجد والهيام فى حب الذات الإلهية مبلغاً كبيراً نتج عنه مجموعة من درر الشعر العربي الإسلامي، تشع كلها بأنوار الحب الإلهي، أحياناً بالتصريح وغالباً بالتورية، ومن أشهرها قصيدته المسماة بالتائية أو نظم السلوك، التي يقول مطلعها:
سقتني حُميَّا الحبِّ راحةَ مقلتي* وكأسي محيَّا مَن عنِ الحُسنِ جلتِ
فأوهمتُ صحبي أنَّ شربَ شرابهم * بهِ سرَّ سرِّي في انتشائي بنظرةِ
وبالحدقِ استغنيتُ عنْ قدحي ، ومِنْ * شمائلها، لا منْ شموليَ ، نشوتي
ومن فرط حساسية تلك الأشعار، وما بها من تلميحات ومصطلحات استخدمها بن الفارض وغيره من شعراء الصوفيه للكناية عن أحوالهم ومواجيدهم التى لم يجدوا فى اللغة العادية ما يعبر عنه، لذا أشكل ذلك على عقول بعض المسلمين ومنهم من وصفها بالزندقة ووصف صاحبها بالكفر، لأخذهم بظواهر الألفاظ وإساءتهم الظن بأصحابها وهم لا يفهمون أن الصوفية كثيراً ما يقولون أشياء ويقصدون بها أشياء أبعد.
وقد تصدى لشرح تلك الأبيات وتبحر فيها الكثير من العلماء والصوفية، ولعل من أشهرهم مؤخراً الداعية الصوفي الشيخ/ “محمد عوض المنقوش” في برنامجه “رحلة المحب” الذي إذيع على بعض القنوات الفضائية، وحلقات هذا البرنامج موجودة على موقع YouTube ، فليرجع إليها من أراد أن يفهم أكثر ويتذوق تلك المعاني، وكما تقول العبارة الصوفية الشهيرة: “من ذاق عرف”.
Categories: أعمدة الرأى
Posted: 26 مايو، 2019 20:19
السعيد الصياد
Posted: 27 مايو، 2019 21:11
WEA