لطائف بلاغية
بقلم د. أحمد فتحي الحياني
أستاذ بكلية الآداب
جامعة الموصل
” ليلةُ القَدرِ خَيْرٌ من ألفِ شَهْرٍ” القَدْر/٣.
في هذه الآية المباركة ب : ” ليلتها “، التي يَشُعُ فيها : ” نور القرآن ” ، بنزوله فيها ، جاءت : ” جوابا نورانيا شافيا لما في القلوب والنفوس ” ، بل : ” بشرى ورحمة “، للمؤمنين ، تبشِّرُهُم بأنَّ : ” ليلة القدر “، هي ” خيرٌ ” من : ” ألف شهر”، .
خيرٌ : اسمُ تفضيل، إذن في الآية : ” مُفَضَّل هو ( ليلة القدر ) ، ومُفَضَّل عليه هو ( ألف شهر ) ، فهي : ” خيرية ” ، مفتوحة ، وتفضيل لاحدود له ، لاتُقَدَّرُ هذه الخيرية ب : بثلاث وثمانين سنة أو يزيد ، بل هي : ” خير” .
وقد تكون هذه الخيرية المباركة المفتوحة أضعافا مضاعفة لايعلم بركتَها وخيريتَها إلا اللهُ، ولذلك تكرَّرت بالاسم الظاهر في سياق السورة دون المضمر : ” ثلاث مرات” :
” إنَّا أَنْزَلنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَاأَدْرَاكَ مَالَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ ” . وفي التكرار بلاغة، لأنَّ في التكرار ترديدًا وتذكيرًا وتوكيدًا، وذلك لأسباب عظيمة نذكر منها:
— نزولُ القرآنِ العظيم فيها، فَعُظِّمَتْ الليلةُ من أجلِ :” القرآن”، وبورك فيها، لأنَّ : ” نزول القرآن ” ، حَدَثٌ عظيم ، ونبأٌ عظيم ، للإنسان ، لأنه : ” الحبل المتين “، الذي يوصله ب : ” الله-عزَّ وجلَّ- “، وهذه هي:” النعمة الكبرى”، التي يجب أن يتلقّاها ب : ” الشكر العظيم والحمد” ، ولأنَّ فيها سعادةَ الانسان في الدارين .
وفي ذلك :” حَثٌ مُؤَكَّدٌ”، على الإجتهاد ب:” عبادة تَدَبُّرِ القرآن” ، بخاصّة و : ” تلاوته ” ، أي: اتِّباعه لفظاً ومعنىً.
— مايَحدُثُ في ليلة :” القَدر”، من أحداث عظيمة، مثل:” نزول الملائكة”، كما ذكرت السورة-، بالخيرات والبركات، والتبشير بالمغفرة والرحمة للعباد، ولاتنزل الملائكةُ في هذه الليلة إلا بهذا بإذن الله الكوني .
و ” القَدْر “، له معنيان يجب : ” الجَمْعُ “، بينهما ، وهما : من القَدر : أي: المكانة والمنزلة من بين الليالي شَرَفاً عظيما، ومنزلةً ساميةً .
والمعنى الآخر هو : ” التقدير “، إي : مايُقَدِّرُ الله- عزَّ وجَلَّ- ، للعباد في حياتهم الدنيا من كُلِّ أمر…وكلا المعنيين مُراد في السورة فيجب الجمع بينهما .
وإخفاء تحديد : ” ليلة القدر “، يتناسبُ بلاغيا وبيانيًا ، مع شرفها ومنزلتها وعظمتها من بين الليالي ، على طريقة : ” القرآن الكريم”، في :” إخفاء”، بعض:” الأمور المهمة”، التي تَخُصُّ المؤمنين ، مثل :
أجَلُ الإنسان بالموت ورزقه، وأجل الدنيا، وساعة إجابة الدعاء في يوم الجُمُعة، والصلاة الوسطى – على رأي- ، وغير ذلك من الأمور المهمة. وذلك لِ : ” حِكَمٍ “، عظيمةٍ .
ولْنَضرِب مثالاً على ذلك ب : ” أجلِ الإنسانِ بالموتِ ” ، فعشرون سنة يَعيشها الإنسانُ مَخفيةَ الأجَلِ، خيرٌ من مائة سنة معلومة الأجل ؛ وذلك لأنَّ العِلْمَ بذلك كما ذكر أهل العلم سيُطغي الآنسان ، فيعيش نصفها أو أكثر ب : ” اللهو واللعب والطغيان والفساد، ويعيش ماتبقى منها ب : ” القلق”، والهموم والغموم بانتظار : ” الموت المعلوم.
فسبحان الله ماأحكمه حِكمَةً لايُحيطُ بها البشر ، وكذلك أُخفِيَت : ” ليلة القدر”، ليتنافس المتنافسون في طَلَبها ، وَلِيَتَسابق المتسابقون فيها عبادةً وتَقَرُّباً إلى الله- سبحانه- ، بكلِّ أنواع العبادات، وبخاصة : ” تَدَبُّر القرآن” ، وكذلك لِيَتَبَيَّنَ الصادقون أهلُ الهمم في ذلك ، من المُتَهاونين المُتَكاسلين، ولعل هذه إحدى حِكَمِ إخفائها.
اللهم اجعلنا ممن وافقها وقامها إيمانا واحتسابا بفضلك وكرمك ورحمتك . آمين.
Categories: الإعجاز فى القرأن و السنة
Posted: 26 مايو، 2019 02:01
احمد محمد مصطفى
Posted: 27 مايو، 2019 21:42
WEA