عازف لحن السكينة
بقلم الكاتب : د . ياسر ثابت
تقول الأسطورة إن لقاءنا الأول لم يكن جيدًا.
في شتاء 1982، في مدرجات كلية الإعلام في جامعة القاهرة، ألتقينا ، وربما كنتُ أحاول تعريف طلاب الفرقة الدراسية الأولى بالنشاط الثقافي في الكلية حين رددتُ على تعليقٍ له بحدةٍ تناسب أعمارنا الصغيرة.
ظل أنور الهواري يستذكر تفاصيل اللقاء الأول بيننا بوجهه الباسم كأنه خالق الطمأنينة ، وأنا أدّعي نسيان تفاصيله كي أبدد الغيوم.
أحدُ أنجب أبناء جيله في عالم الصحافة ، يتفرج الآن على السيرك المنصوب ، ويكتفي بإبداء رأيه على فيسبوك ، دون أن يزعم إحتكار الحق أو الحقيقة.
بسهولة وسلاسة ، أنتقلتْ مقالاته التي تعكس قدراته كباحث رصين ، من صفحات الصحف إلى مواقع التواصل الاجتماعي.
يبقى هذا الكاتب الصحفي الجَسور ، الأكثر قدرة على المحاولة ، الأكثر قدرة على المضيّ ، وأكثرهم قدرة على دعم الآخرين.
أنور ، الخلوق العفيف ، القارئ النهم ، صاحب القلب النقي والقلم القوي ، الذي لا يخجل من الإعتراف بأنه “سيد التحولات” ، ويعزو ذلك إلى مراجعاته المستمرة لمعادلات الحياة.
الصابر المحتسب ، الذي كلما شبتْ في لحمه نارٌ ، أتسعت ابتسامته ليغرس في القلوب بذرة الفلسفة.
يتجاوز فلواتِ الألم والحِداد الطويل، ولا ينفخ في بوق الخسارة. يرى أنه لا جدوى من التربع على كومة بكاء. في كل أطواره ، يعرفُ بالفعل كيف يعزفُ لحنَ السكينة والسلام.
لم أعرف يومـًا رجلاً يألف الموت ويحكي عنه بأريحيةٍ وتسليم كاملين كما يفعل أنور في كل حين.
باغتني يومـًا بالقول إن “الأماكن التي تمتلئ بالأطباءِ سيئةٌ ، تفيضُ بالوحشة” .
يستيقظ كل يوم ليقول بصوتٍ واثق: عزيزتي الحياة ، صباح الخير !
لا يبحث عن أعذار ؛ لكن يبحث عن أفعال، حتى وإن كانت تنتحب تحت ظلاله أرضٌ بأكملها. طبعةٌ شرقاوية من (ابنُ عطاء الله السكندري) ؛ إذ يقول :
من تمام النعمة عليك ، أن يرزقك ما يكفيك ، ويمنعك ما يُطغيك.
ها هو النهار ينحسر متراجعـًا خلف السحب الكليلة الشاحبة، مثل لهاث جوادٍ يفر عن أرض المعركة. غير أن أنور، الذي يسكن في مدينة 6 أكتوبر، تهفو روحه إلى قريته الساكنة الوادعة في الشرقية، حيث جامع السرايجة، والمضايف والمنادر، والسواقي التي تبث الماء شكواها بالأنين.
أنور الهواري، صحفي من العيار الثقيل، عظيم النفس ، عالي الهمة ، وهو أيضًا صديق عزيز، لم تُغضبه يومـًا صراحتي ولم تضايقه روحي الساخرة، وهذا وحده كافٍ لكي أبني له في القلب منزلًا.
العزيز أنور الهواري ..
.. الطريق مباركة ، وإن لم تؤد.
Categories: أعمدة الرأى