“الجنس” . . وتجديد الخطاب الديني
بقلم: طارق أحمد مصطفى
على غير المعتاد في الواقع المصري البائس تصدر “تريند” البحث والمتابعة على الإنترنت ذلك الحديث الشهير الذي جذب اهتمام ومتابعة الكثيرين بين الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر ود. محمد الخشت رئيس جامعة القاهرة في مؤتمر الأزهر العالمي الذى جرى فى أواخر يناير 2020 الماضي، والذي دار حول جدلية العلاقة بين التراث الإسلامي والحداثة الغربية في سياق الحديث عن تجديد الخطاب الديني، ورغم أنه كان حواراً متخصصاً إلا أنه انتقل من خانة الجدل الأكاديمي النظري إلى ساحة الاستقطاب الفكري والمكايدة السياسية والانحياز الشعبوي، وتداعت العديد من الاستجابات والتفاعلات مع هذا الحوار القصير منها ما اتخذ منحاً ساخراً ومنها ما اتخذ منحاً استعراضياً أو ناقماً أو متشفياً، ومنها كذلك ما أحيا جدليات قديمة تجاوزها الحوار الثقافي منذ زمن، ولكنه اتضح أنها لازالت حية فى نفوس أصحابها.
وكان من المفارقة بعد يومين تقريباً من هذا الحوار أن ظهر منشور مقتضب على صفحة دار الإفتاء المصرية على الفيس بوك يتكلم عن أن ختان الإناث حرام شرعاً لأنه يعتبر انتهاك لجسد المرأة، وهو ما أثار فى التعليقات جدلاً واسعاً للغاية بين تيارين رئيسيين: أحدهما محافظ يتهم دار الإفتاء المصرية (ذات المرجعية الأزهرية) بالتفريط فى أحكام الدين وتحريم ما أجازه الشرع استجابة للرؤية الحداثية الغربية التي ترى أن جسد المرأة ملك لها وحدها لا يجوز لأحد غيرها أن يفرض سطوته عليه، وتيار آخر يرى أن هذه الفتوى الجديدة تعتبر دليلاً على أن الأزهر لا يقف ضد تجديد الخطاب الديني كما يفتئت عليه البعض بل إنه في الحقيقة هو من يقود هذا التجديد بما يملكه علماءه من مرونة فقهية ورؤية واقعية وتفاعلاً مع جديد الأفكار والأطروحات.
وتأتي المفارقة كما عبر عنها البعض في نبرة تهكمية أو متسائلة من أنه كيف يدافع شيخ الأزهر بالأمس عن التراث باعتباره منبع التجديد في حين تأتي هذه الفتوى اليوم مخالفة تماماً لكافة الآراء الفقهية التي درج عليها الفقه الإسلامي (التراثي) والتي تتراوح بين إباحة الختان وبين وجوبه، مع الالتزام بالقاعدة التي ارساها الحديث النبوي “اخفضي ولا تنهكي” بمعنى اقتطاع الجزء البارز وليس الاستئصال الكامل، وهو ما يعني عندهم أن الأزهر هنا لا يستمد مرجعيته في التجديد من مقولات تراثية كما يقول الشيخ الطيب.
وبعيداً عن هذه الفتوى، فقد لفت نظري بالرجوع لكافة الاستشهادات والقضايا الجدلية المطروحة على مائدة التجديد الفقهي نجد أنه ليس هناك تقريباً ما يثير الجدل وتنقسم حوله الآراء مثل القضايا التي لها علاقة بالمرأة بشكل أو بآخر: جسدها ، ملابسها ، ممارساتها ، حقوقها الزوجية. فالدين في العموم من حيث أنه منظومة أخلاقية معنية بالفضيلة والعفة وحسن المعاملة وانتظام حركة المجتمع فإنه يهتم بأن يضع للمرأة إطاراً أخلاقياً في تعاملها مع عالم الرجل، وبالمثل أن يضع للرجل إطاراً وحدوداً في تعامله مع عالم المرأة، بحيث يضمن ألا يلتقي العالمان إلا فى إطار من الأعراف الاجتماعية المنضبطة والأحكام الدينية الواضحة التى تراعي هذه المقاصد التي ذكرناها.
بينما كانت الحداثة منذ البداية مهتمة بتحرير الفرد من سلطة المجتمع ومؤسساته القديمة حتى يستطيع الانطلاق والعمل والإبداع والاستمتاع بالحياة وتحقيق مصالحه كما يراها هو لا كما يراها له الآخرون، استناداً إلى أنه صاحب الحق الأصيل فى تسيير حياته وتقرير مصيره وأن لديه الأهلية الكاملة للتحكم فى مقدراته والتصرف فى ممتلكاته. وقد رأى فلاسفة الحداثة أن الإنسان لن يستطيع تحرير نفسه إلا بتحرير جسده من سلطة المجتمع ومن سيطرة ما اعتبروه أوهاماً ثقافية يتسلط بها المجتمع على عقول ونفوس الأفراد لينتهك حقهم فى الحرية الفردية، ورأوا كذلك أن المرأة هي أكثر من تعرض لهذا الانتهاك عبر التاريخ لذلك كان تحرير المرأة في عرفهم هو المؤشر الأهم للحداثة.
وكان من الطبيعي أن تصطدم الرؤية الحداثية الصرف مع المبادئ الدينية المجردة، وهذا التصادم جعل الصراع يشتد بين تيارين: تيار ذي مرجعية دينية يحتفي بالروح على حساب الجسد وبالآخرة على حساب الدنيا وهو – من ثم – يرفض الحداثة ويدعو الناس للتمسك بتراث المجتمع وثقافته حفاظاً على هويتهم وأمانهم واستقرارهم، وتيار ذي مرجعية حداثية يرفض الدين ويدعو الناس للتمرد عليه والتنكر لمرجعيته والانفلات عن سطوته حفاظاً على حريتهم من أجل تحقيق إشباعهم المادي وسعادتهم الدنيوية، وبين كلا التيارين درجات متعددة من أقصى التطرف الشديد إلى مساحة التقبل السمح. إلا أن التجربة الإنسانية تؤكد أن التيارات الفكرية مع اختلافها تستسهل التطرف وتُستدرج له دائماً بفعل آليات متكررة منها: المزايدة من أجل الاستحواذ على الاهتمام وإثبات التفوق، ومنها الرغبة في نفاق الجمهور ومجاراة أهواءه، ومنها كذلك المبالغة فى تحصين الأفكار من الذوبان، إلى جانب السعي للسيطرة والتحكم ونفي الآخر وإزدراءه.
وقد كانت المساحة المتعلقة بعلاقة المرأة والرجل وما يترتب عليها من احتياج جنسي وميل عاطفي هي أكبر مساحة للتطرف بين كلا التيارين، فبالغ كل تيار في نفي الآخر وفي استقطاب المؤيدين وفي المزايدة وتحصين الأفكار وتأكيد التمايز والتفوق. فمن ناحية بالغ التيار الديني المتطرف فى حماية عفة المرأة وعزلها حتى لا تكون فتنة للرجال والاكتفاء بها ككيان تابع للرجل منقوص الأهلية محروم من الكثير من الحقوق المتاحة للرجال، وبالغ متطرفو التيار الحداثي فدعوا للحرية الجنسية الكاملة والتسامح مع الممارسات الجنسية الشاذة والترويج لها تأكيداً على حرية تصرف الإنسان فى جسده، وقد كان الجدل حول مسألة ختان الإناث ومثلها مسألة حجاب المرأة بدرجة مختلفة هي بعض تجليات هذا الصراع بين ممثلى كلا التيارين في بلادنا الإسلامية.
وكما أن للتطرف تجلياته فللتسامح والتقبل والتعايش تجلياتهم كذلك، فبعض الحداثيين العرب قد تسامحوا مع الجانب الروحي فى الدين الإسلامي، ومع فكرة تنمية الوازع الأخلاقي ذا الخلفية الدينية من أجل حفظ السلام الاجتماعي، بينما تقبل بعض الفقهاء مراجعة الكثير من الأحكام الفقهية وخاصة فقه المعاملات والأحوال الشخصية استجابة لمتغيرات الواقع الحداثي المهيمن في ضوء المقاصد الشرعية الاصيلة. ونؤكد هنا أن هذا التقبل والتسامح لا يأتي إلا بقدر ما تتلاقح الأفكار وتتحاور، وبقدر ما يمتلك كل تيار من ملكة النقد الذاتي، ومن جرأة التطوير المنهجي.
ورغم ما أنجزه تيار الاعتدال والوسطية من شوط واسع من أجل التقارب والتقبل المتبادل الذي من شأنه تعميق التجربة الإنسانية، إلا أن تيارات التطرف تستمد دائماً وقوداً جديداً يزيد المعركة سخونة، فيستمد التطرف الحداثي وقوده من التفوق المادي الطاغي للحداثة الغربية والتي يعتبرونها دليلاً على تفوق الفكرة الحداثية بكافة أبعادها المعتدلة منها والمتطرفة، ويستمد التطرف الديني وقوده من نفس المصدر إذ أن هذا التفوق المادي للحداثة الغربية والمصحوب بشره استهلاكي وانفلات جنسي يعتبر بالنسبة لهم دليلاً عكسياً على ضرورة الرجوع للجذور والتقوقع حول الذات وتحصين المنظومة الاخلاقية من التشظي والضياع.
Categories: أعمدة الرأى, المرأة و المجتمع