منحة الثلاث حيوات
بقلم : بسنت منجي
هل نحن -حقاً- محظوظون ؟
ذلك لأننا نعيش في هذه الحقبة الزمنية التي أنعم الله فيها على عباده بأن يتقلبوا خلالها في ثلاث حيوات بدلاً من حياتهم الوحيدة ؛ أم تُرانا سنرسب في هذا الإمتحان القدري؟ ، فنهدر منحة الثلاث حيوات ونرضى بالحياة الواحدة ، تلك الحياة التي طوتنا في تيارها الجارف منذ الولادة ، و فرضت علينا الكثير من القواعد والقوانين و المعتقدات الدينية والأعراف الأجتماعية .. ؛ فإذا بنا ننهمك داخل أتونها و نتحرك بقوة الدفع في سباق ماراثوني محموم في شتى المجالات و الأنشطة الحياتية .. دراسة ، عمل ، رياضة ، طعام و كذلك تحصيل قسط من العلم و المعرفة كل حسب قدراته وظروفه ، و بالطبع أثناء ذلك ننخرط في سباقات متباينة و صراعات متعددة : كيف نقتنص فرصة عمل؟ كيف نستطيع تدبير المال للزواج؟ كيف نتمكن من توفير الحد الأدنى من المعيشة الكريمة؟ ؛ تتشتت أنفسنا و يتمزق وجداننا دون أن نلتفت ، و كأنه طريق منفرد ذو مسار واحد.
إنها حياتنا المغلقة التي ظللنا نجري في مضمارها معصوبي الأعين ؛ و فجأة و دون سابق إنذار صفعتنا لافتة ..(الوقوف إجباري) .. إنها “كورونا” ، فتقف لتفتح عينيك قسراً و تنظر حولك ، أين أنت فتبدأ بضحكة ساخرة و تظنها فرصة مواتية للإسترخاء و أخذ قسط من النوم لإراحة الجسد المنهك ، و لكن بعد فترة تتساءل بسخرية : من هؤلاء القوم الذين أعيش معهم ؟ ، أجل ، أعرفهم .. زوجتي، زوجي، أبنائي، وعائلتي .. ، أجل هذه هي أسمائهم و أشكالهم .. هؤلاء هم الذين من أجلهم كنت منخرطاً في سباق الماراثون كي أتمكن من ملئ أفواههم و تلبية حاجاتهم أو ربما أيضاً لكي أحقق ما يسمى بتأمين مستقبلهم .. و ها أنا أشعر ببعض الإغتراب معهم ، إغتراب مزدوج عقلي و نفسي ، بل إنني أشعر -و ياللغرابة- ببعض الوحشة رغم أنني في بيتي ..! ؛ لكن سرعان ما تستدرك قائلاً : و لماذا العجب إن كنت أشعر ببعض الإغتراب عن ذاتي نفسها .. ! ؛ ذاتي التي أكتشفت -مؤخراً- أنني أجهل عنها الكثير ، و كأنني لم أعرفها قط.
هنا تنتهي الحياة الأولى وتبدأ الحياة الثانية ، تذهب السكرة وتأتي الصحوة ، لكن أنتبه .. فهي منحة تأتي على هيئة صحوة و لا توهب إلا لمن رحم ربي ، و الذي بفضله على كثير من خلقه وهبهم هذه المنحة من قلب المحنة ، فالقدر يمنحك تلك الفرصة لإلتقاط الأنفاس لتنظر خلفك بتأمل ، ربما لكي تتمكن من خلال هذا الحصار المفروض عليك قسرياً أن تكتشف ذاتك التي كانت .. و إلى أين صارت .. بل و لأي وجهة ستمضي ؟ ، و من هنا ستعيد النظر لأهدافك و للمسار الذي يتعين عليك أن تسلكه ؛ ولكن كل ذلك يستلزم أن تستخلص الحكمة من هذا السباق -الذي توقف مؤقتاً- لكي تستطيع إعادة ترتيب أولوياتك عساها تكون فرصة ذهبية لإستعادة نفسك الحقيقية و التي توارت تحت وطأة سنابك خيل الحياة العاتية ، وطأة اللهاث الدائم خلف متطلبات الحياة التي صرفتنا عن غايتها الأسمى و عن الغرض من وجودنا فيها.
الفكرة .. تكمن في مراجعة الذات و إختيار الطريق الذي ننتهجه للوصول إلى الغاية المرجوة ، و ذلك يستلزم أن نجدد النوايا لكي نتأهل لدخول الحياة الثالثة ؛ فهي واحدة من اثنتين اما أن يتوفانا الله شهداء و قد جددنا نوايانا و عقدنا العزم على الخير بالتوبة إليه فيرزقنا سبحانه الفردوس الأعلى بدون حساب ولا سابقة عذاب ، لأننا اخذنا بالأسباب ثم توكلنا على الله فكفانا به فضلاً و نعمة ، أما الإحتمال الآخر هو أن نعود إلى سباق الماراثون من جديد ، و لكن من المفترض أن نكون حينذاك قد صرنا مختلفون و محصنون و مدركون ، فلقد أصبحنا نحن الواعون الي أولوياتنا الجديدة و المنتبهون إلى توبتنا و العازمون على الحفاظ عليها .. لحظه .. لا ترهق نفسك وتوترها فمن المؤكد أن الكثير سيحافظ علي هذا ايام ،اسابيع ، شهور، سنوات هذا ليس بالمهم ؛ إنما الأهم أن هذه التجربة لن تُمحي من ذاكرتنا ، ستظل بمثابة الناقوس الذي يدق في أذهاننا لكي نجدد نوايانا و نكرر منحة الثلاث حيوات التي يمكننا أن نعيشها في الحياة الواحدة ، ذلك بالإعتياد على مراجعة النفس و النظر للخلف بتأمل ، ناظرين للسماء بعرفان لأنها أرسلت لنا كائناً هيناً لا يملك في تكوينه إلا شريطاً وراثياً مغلفاً ببعض البروتينات فكان آية من آيات الله ، ليعيد الإنسان إكتشاف ذاته و حجم قدراته فيتوقف عن الخيلاء و الزهو بنفسه ، كما قال تعالى : “حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” يونس/24
أم أنها نذيرٌ باستبدال الله لنا بقوم آخرين لكثرة معاصينا و ذنوبنا ، هو إبتلاء في كل حال ، و الإبتلاء لا يُرفع إلا بالدعاء الممزوج بالتوبة و الرضا و إصلاح النية و تغيير أنفسنا بالفرار إلى الله
” فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ” – الذاريات/ 50 .
Categories: أعمدة الرأى
Posted: 16 أبريل، 2020 04:49
حسن سعيد
Posted: 16 أبريل، 2020 06:36
WEA