مناعة الوطن الذاتية
بقلم لواء دكتور : علاء عبد المجيد
لقد وضعتنا جائحة فيروس كورونا المستجد ، أمام لحظة فارقة من لحظات التاريخ الإنساني ، حيث سيتغير شكل العالم في المجالين السياسي والإقتصادي و بالطبع سيمتد التغيير ليشمل حياتنا كمجتمعات وأفراد في مجالات شتي تمس جوهر الحياة اليومية للمواطنين من حيث أنماط التشغيل والبطالة ، ومن حيث حرية التنقل داخل الأوطان وخارجها … ألخ ، وكذلك سيمتد التبدل إلي مفاهيم مثل الحوكمة و الدولة الرشيدة ، حيث أثبتت تلك الجائحة مدي هشاشة النظام الدولي و إفتقاد نظام العولمة للمناعة الذاتية القادرة علي حماية الأفراد والدول.
إن المفارقة الجديرة بالتوقف أمامها أن العولمة كنظام دولي حاكم خلال العقود الفائته كان هو السبب الرئيس في تحول الوباء إلي جائحة ، فلولا مفاهيم العولمة لتم حصار الفيروس في منبعه ، و لولا بعض الضلالات التي تبثها وسائل أعلام دولية لما أجتاح الذعر كل شعوب العالم ، أي أن مفاهيم العولمة ( الإنتقال الحر و المرن للأفراد و البضائع و الأفكار) تسببت في إلحاق الأذي بالمجتمعات والدول لكنها ـ و ياللخجل ـ لم تتمكن من إنقاذهم بعد حلول الكارثة ، فلم تفتقد (العولمة) المناعة الذاتية فحسب بل إنها فقدت جدواها وفاعليتها كنظام قادر علي توحيد الجهود والإمكانات لمواجهة أزمة شكلت أكبر تهديد للأمن والسلم العالميين .. ورغم ذلك وقفت المنظمات الدولية كالأمم المتحدة ، و الإقليمية مثل الإتحاد الأوربي عاجزة بشكل شبه تام أمام تلك الأزمة التي تهدد الوجود ذاته ! وفي المقابل .. أثبتت الدول ذات النُظم الوطنية مقدرتها علي مواجهة الأزمة بإجراءات حاسمة تضع المصلحة الوطنية العليا قبل أي إعتبار ، كما أثبتت أنها تمتلك من المناعة الذاتيه ما يؤهلها للتأثير في شعوبها ، فالشعب المصري علي سبيل المثال قد إنصاع طوعاً لتعليمات دولته ـ في الأغلب الأعم ـ لثقته في رشادة دولته الوطنية.
و خلاصة القول .. ، إننا أمام نظام دولي يُعاد تشكيله ويتعين علينا الإضطلاع بالدور اللائق بينا كدولة إقليمية كبري ذات تأثير دولي لا ينكره مبصر ، وذلك بتعميق الوعي الشعبي بدور الدولة الوطنية في حماية مقدرات الشعب ومستقبله .
تنهمر الزخات المتوالية من تساؤلات مبهمة فوق رؤوس الخبراء لكنها تظل بلا أجوبه قاطعة ، فمثلاً في مسألة النفط أتسعت دائرة الإحتمالات لتشمل كل المتناقضات الغرائبية في تحليلاتها ، فهل تحول حلفاء الولايات المتحدة إلي خطر إقتصادي يهددها ؟ ، أم أن هنا لك ثمة إتفاق مسبق بين ترامب وحلفاءه لتحقيق هدف إنتخابي دعائي ، يرنو صوب القضاء علي الشركات الأمريكية الصغيرة والمتوسطة لصالح تلك الشركات العملاقة العاملة في مجال النفط والتي كانت الداعم الأكبر لحملة ترامب السابقة ؟!
أم أن ما جري لا يعدو أكثر من تداعيات طبيعية للأزمة الدولية المترتبة علي جائحة كورونا ؟!
تشتد زخات الأسئلة لتصير سيولاً تغرق الجميع في دوامات لا منتاهية من الإحتمالات حينما يتعلق الأمر بنتائج تلك الأزمة الغير مسبوقة ، هل سيقع الأقتصاد العالمي في حالة ركود كبير مشابه لحالة الكساد العظيم ـ منذ قرن تقريباً ـ الذي دمر أقتصاديات دول عظمي حينذاك وجرف أمامه كثير من البشر إلي قاع الفقر المدقع .. أم أن آليات عالمنا قادرة علي إجتياز الأزمة دون الوصول إلي مرحلة الإنهيار ؟
لقد أدي نظام العولمة بما يتضمنه من أدوات فاعلة في إدارة أمور الأقتصاد والتجارة الدولية و مراكز الإنتاج الصناعي و طرق توزيعها .. حيث جعل من الصين مصنعاً كبيراً للعالم بأكمله ، بما تقدمه من أيدي عاملة رخيصة ومستلزمات إنتاج متوافرة ، مما أدي لإحتكار الصين لمعظم مراكز الإنتاج الصناعي في العالم ، ولم يكن هنالك ثمة مشكلة طالما آليات العولمة تعمل بكفاءة بما يتيح إنتقال السلع والأفراد والأفكار بمرونه وسرعة فائقة ، ولكن ـ جاءت الجائحة لتكتشف للشعوب أن دولها لا تمتلك أبسط وسائل الوقاية الضرورية … لأن مصانعها الوطنية توقفت عن العمل لصالح نظيرتها الصينية ذات التكلفة المتدنية ، هل يمكن أن يستمر ذلك الوضع الذي كان عاملاً مباشراً لتفاقم الأزمة في الغرب أم ستتم الإطاحة بقاعدة من قواعد التجارة الحرة لكي تضمن الدول أن الحد الأدني من السلع الإستراتيجية يتم إنتاجه محلياً .
تظل التساؤلات المنهمرة بلا يقين قطعي الثبوت ، لكن المؤكد في الأمر هو أن العالم المتماسك الذي كنا نعرفه قد بات في حالة سيولة تزداد بمرور الوقت ، لكن … كما أن في هذا الوضع العالمي مخاطر لا يستهان بها إلا أنه يقدم فرصاً لا مثيل لها ….
و تبقي الدولة الوطنية الرشيدة الممسكة بزمام الأمور والقادرة علي التدخل الحاسم في الوقت المناسب هي الضمانة الأكبر لدرأ المخاطر المحدقة وإغتنام الفرص السانحة .
Categories: أعمدة الرأى