Menu

المثقِف العمالي والتعديلات الدستورية

بقلم: طارق أحمد مصطفى

من القواعد المهنية الهامة التى على المدرب التنموي والمثقِف العمالي الالتزام بها أنه لا ينبغي له ولا يُطلب منه أن يحاول إقناع المشاركين بتوجهاته الشخصية سواء السياسية أوالدينية أوالثقافية داخل قاعة التدريب. فقاعات التدريب ليست مساحة حرة للمدرب والميسر للتعبير عن تلك القناعات وليست منبراً له لإبداء آراءه الخاصة والترويج لها.

وعلى الرغم من أن المدرب والمثقِف هو إنسان ومواطن قبل أي شيئ ومن المرجح أن يكون له أراءه واختياراته في الشأن العام مثله مثل أي شخص آخر، فضلاً عنها في شئونه الخاصة، إلا أن دوره مع المشاركين أثناء ممارسته لمهنته أهم وأعمق من مجرد تلقينهم لآراءه الخاصة أو أي آراء تتبناها مؤسسة ما، بل إن دوره الحقيقي أن يرفع وعي الناس ويعمق معارفهم وينمي خبراتهم ومهاراتهم، حتى يكونوا قادرين على تبني توجهاتهم الخاصة بوعي، واتخاذ قراراتهم بحرية، وممارسة مسئولياتهم الخاصة والعامة بفاعلية، ومن هنا تأتي مصداقية ما يقدمه لدى المشاركين، وما يترتب عليها من عمق تأثيرها فيهم.

ولنضرب بعض الأمثلة على ما تعنيه المهنية وما يترتب عليها من مصداقية: ففي المؤسسات الإعلامية الرصينة نلاحظ الحرص على تأكيد القواعد المهنية فى تقديم المادة الإعلامية، فنلاحظ مثلاً النبرة التي يتحدث بها قارئ نشرة الأخبار المحترف والتي تتسم بالحياد التام دون إبداء أية مشاعر خاصة سواء بالحزن أو الفرح أو الدهشة وخلافه حيث أن دوره كقارئ للنشرة يقتصر على نقل الخبر دون محاولة توجيه انفعالات المشاهدين، كما كان يحدث في إعلام بعض الأنظمة الشمولية.

وفي مجال الحوار والمناظرة التليفزيونية يحرص مدير الحوار المهني على إعطاء جميع الأطراف المشاركين فرصاً متكافئة في الحديث وتوجيه الأسئلة بما يساعد كل طرف على التعبير وإبداء وجهة نظره، حتى وإن كان المحاور منحازاً في قرارة نفسه مع أو ضد طرف من الأطراف، وذلك احتراماً لحق المشاهد في المعرفة، مع عدم اللجوء لمحاولة ابتزازه عاطفياً احتراماً لحريته في الاختيار.  ولعل من الأمثلة الشهيرة على المهنية فى المجال الإعلامي حرص مذيعي ومحللي المباريات والبرامج الرياضية، حتى أولئك المعروف انتماءهم الرياضي، على تأكيد حياديتهم وموضوعيتهم أثناء إذاعة وتحليل المباريات، لأنهم بذلك يؤكدون على أنهم يتمتعون بالمهنية التي هي قرين للمصداقية.

وعن المهنية في المجال الطبي، فمن المعروف أن للأطباء قسم يؤكد أهم القواعد والأخلاقيات المهنية التي عليهم أن يلتزموا بها، ومنها: ” …… وأن أبذل رعايتي الطبية للقريب والبعيد، للصالح والخاطئ، وللصديق والعدو …..”، فالطبيب المهني يقدم خدمته الطبية للجميع بنفس الاهتمام والعناية حتى نحو شخص يبغضه أو عدو ربما يتمنى له الموت، إلا أنه كطبيب ينحى مشاعره الخاصة جانباً حتى يؤدي واجبه المهني بإخلاص وتفان. وكذلك في القضاء، فالقاضي المهني الأمين نجده يعلن التنحي عن بعض القضايا لاستشعاره الحرج، إذا وجد في نفسه انحيازاً خفياً أو ميلاً قلبياً نحو أحد المتخاصمين، وبدون هذه القواعد المهنية الأخلاقية يفقد الناس ثقتهم فى النظام القضائي ويذهب كل منهم لأخذ حقه بيديه.

ونعود إلى مهنة التدريب والتثقيف، والمطلوب منها توعية أبناء الطبقة العاملة وتعديل سلوكهم وإكسابهم اتجاهات إيجابية، على المدرب أن يعي أنه يقدم خدماته تلك لدارسين كبار، لكل منهم همومه ومصالحه، ولكل منهم خلفيته المعرفية وتوجهاته وانتمائاته السياسية والثقافية والدينية وغيرها في إطار التنوع الإنساني الطبيعي، بما يتفق مع النظام العام والآداب التي تعارف عليها المجتمع، وبما يناسب طبيعة إنسان القرن الواحد والعشرين المنفتح على كافة العوالم والتيارات الفكرية.

ليس على المثقِف العمالي أن يحاول صب دارسيه في قوالب ثابتة، فهو أمر فضلاً عن كونه مستحيلاً وخاصة بالنسبة للدارسين الكبار فإنه غير مقبول مهنياً، ولكن عليه أن يحاول أن يرفع وعيهم بحيث يكون هناك حد أدنى من وحدة الفكر فيما بينهم، يستطيعون من خلالها التعايش والتفاهم والتعاون والعمل معاً على الرغم مما بينهم من اختلافات. عليه بدلاً من أن يملي عليهم آراء وأفكار معلبة أن يحاول إكسابهم مهارات النقد والتعلم الذاتي والتواصل الفعال والعمل الجماعي واتخاذ القرار وغير ذلك، من أجل مساعدة انفسهم على تطوير واقعهم وتحسين حياتهم والارتقاء بمستقبلهم، فهو بذلك يحررهم من قيود الجهل والقهر ويكسبهم الثقة فى أنفسهم وفي قدراتهم وفي بعضهم البعض.

ولنضرب مثلاً بما يدور على الساحة السياسية المصرية فى اللحظة الراهنة، من طرح مقترح التعديلات الدستورية المقدمة من بعض أعضاء مجلس النواب للاستفتاء العام، وهذه قضية من المتوقع أن تختلف فيها الآراء بين مؤيد بشكل كامل أو جزئي، ومعارض بشكل كامل أو جزئي، وذلك هو الوضع الطبيعي فى دولة ديمقراطية، وهنا لا يجب أن تكون قضية المثقِف العمالي – أياً كان رأيه الخاص – أن يحض الناس على التصويت بنعم أو بلا، ولكن قضيته هو أن يعرف الناس ما الذي هم مقبلون على التصويت عليه بدون تلبيس أو تضليل أو تدليس، قضيته أن يؤمن الناس بآلية المشاركة الديمقراطية وبجدواها وفاعليتها، وأن يتقبل الناس فكرة الخلاف فى الرأي، وأن يتعلموا أن وحدة الأمة ليس معناها أن تتطابق الآراء فى القضايا الجزئية، وأن عليهم التعايش السلمي فيما بينهم – دون تخوين أو إقصاء – رغم ما قد يكون بينهم من خلاف، طالما أننا متفقون على الثوابت الوطنية العامة والتي من أهمها أن أمن الوطن وسلامته وسلامة أبناءه فوق كل اعتبار، وأن مصلحته العامة أهم من مصالح الأشخاص، وأنه لا ينبغي أن يتماهى الوطن مع حزب أو جماعة أو فئة أو فرد، فالوطن يعيش والأفراد زائلون.

ويأتي السؤال: هل بعد ذلك ليس على المدرب والمثقِف أن يتبنى رأي سياسي ما ويروج له إن أراد؟ أقول أن هذا حق أصيل لأي مواطن يمكنه التعبير والمشاركة وفق قناعاته، ولكن فليكن ذلك بطرق مشروعة ومن خلال أي منبر آخر بخلاف قاعة التدريب. ولكن من واقع الخبرة العملية فإننا نلاحظ أن من يعملون بهذه المهنة ويتخذون هذا المنحى تتكون لديهم مع الوقت ثقافة تسمو بهم عن المشاركة فى الدعاية السياسية الفجة نحو اتجاه بعينه، لأنهم يرون أنهم أصحاب رسالة أكثر سمواً معنية بالارتقاء بوعي الناس بواقعهم وبمصالحهم وبأدوارهم، وهذا الوعي إن تحقق على نطاق واسع من شأنه أن يرتقي بلغة الدعاية السياسية، لأن ما تخاطَب به الشعوب الواعية التي تملك إرادتها ليس هو نفسه ما يخاطَب به المغيّبون.

Categories:   أعمدة الرأى, تثقيف عمالى

Comments

  • Posted: 18 أبريل، 2019 11:48

    مريم سليمان

    مقال رائع وتوصيف شامل لدور المثقف العمال او المدرب، تحياتي للكاتب
    • Posted: 19 أبريل، 2019 02:09

      WEA

      هذا فضل منكم نشكركم عليه مع خالص تحياتنا واحترامنا