Menu

لطائف بلاغية

بقلم د. أحمد فتحي الحياني
أستاذ بكلية الآداب
جامعة الموصل

“… إنَّهُ عَمَلٌ غَيرُ صالِحٍ…” هود/٤٦.

من أساليبِ القرآنِ البيانيةِ المعجزةِ البيانِ : أسلوبُ (الوَصفُ بالمَصدرِ ) ، كما في هذه الجملةِ القرآنيةِ المُصَوِّرةِ للمعنى الواردةِ في سياقِ نداءِ اللهِ – تعالى – لنوحٍ – عليه السلامُ – في شأن ابنِهِ من صُلبِهِ الذي كان من المُغرَقين بكُفرِهِ.

ونوحٌ من أهلِ العزمِ منَ الرسل – عليهم السلامُ – والأبُ الثاني للبشريةِ بعد أبينا آدم – عليه السلامُ – بعدَ الطُّوفانِ :

” قالَ يانوحُ إنَّهُ ليسَ مِن أهلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيرُ صالِحٍ…” أي : ليس من أهلِكَ الذين وعدتُك بإنجائِهِم معك في السفينةِ ، وهُو بذلك لايكونُ ابنَه بهذا المعنى ، لانقطاعِ وشيجةِ الإيمانِ بكفره ، فهو ليس من أهلِ دينِِهِ :

( الذين آمنوا ) بنوح – عليه السلامُ – واتَّبعوهُ . لذلك ( كَانَ مِنَ المُغرَقِين ) مع الكافرين .

وسياقُ القصةِ هنا يُركِّزُ مُؤكِّدًا على إظهارِ ( قرابةِ الدين بالإيمانِ ) وأهمِّيَتِها عَقَدِيًا وليس على ( قرابةَ النَّسَبِ ) التي دفَعَت نبيَّ الله نوحًا إلى طلبِ النجاةِ له من اللهِ بدافع شفقةِ الأبِ فطرةً على ابنِهِ على الرغم من كُفرِهِ ، لأنَّ ( قرابةَ الدين ) هي السَّبَبُ في الإنجاءِ من عذابِ الله ، وليس النَّسَبُ مع الكفر ، ف (قرابةُ الدِّينِ ) :

هي المناسِبَةُ في الذِّكْرِ للسياقِ هنا ، ليس للآيةِ فَحَسب ، بل لِسياقِ قَصَصِ الأنبياءِ المرسلينَ – صلواتُ ربي وسلامُه عليهم – مع أقوامِهم ( سببًا ونتيجةً ) في القرآنِ كلِّه ، لذلك جاءت الجملةُ :

” إنَّهُ ليسَ مِنْ أهلِكَ ” مؤكَّدةً وموازيَةً في التأكيدِ لجملةِ ” إنَّهُ عَمَلٌ غيرُ صالِحٍ ” تأكيدًا قويًا.
والصورةُ البيانيةُ :

” إنَّهُ عَمَلٌ غَيرُ صالِحٍ ” أخرَجَت ابنَهُ بأسلوبِِ الوصفِ بالمصدرِ الواقع خَبَرًا نحويًا عنه : ( عَمَلٌ ) الموصوف بغير الصلاحِ : ( غَيرُ صالحٍ ) على سبيلِ المبالغةِ البيانيةِ الهادفةِ في المعنى مُشَخَّصًا ( ابنُهُ ) بهذا الوصفِ مُجَسَّدًا به ، دلالةً على أنَّه قد بَلَغَ الغايةَ في أعمالِهِ الباطلةِ :

كفرًا وجحودًا وإعراضًا وسُلوكًا… ، وهو أسلوبٌ معروفٌ في لغتِنا العربيةِ التي نَزَلَ بها القرآنُ العظيمُ ، يَعرِفُهُ أهلُ العربيةِ :

أنَّهُ إذا كَثُرَ عَمَلُ الرجُلِ صلاحًا وعَدلًا وكَرَمًا وإحسانًا… ، يُقالُ له : إنَّه رَجُلُ عَدلٌ ، أو إنَّهُ عَلَمٌ ، أو إنه كَرَمٌ ، أو إنَّهُ جودٌ… فكأنَّهُ هو العَدلُ بعَيْنِهِ والعَلَمُ والكَرَمُ والجودُ بهذه الأخبارِ بالمصادِرِ… دلالةً على أنه بلغَ الغايةَ في هذهِ الأوصافِ مبالغةً في إخراج المعنى مَدحًا وثناءً وتمييزَا له من غيره ، وأنَّه تَميَّزَ بتلكَ الأوصافِ فتَجَسَّدَ بها وتَشَخَّصَ .

كذلك هنا ابنُ نوحٍ إنَّه بلغ الغايةَ في أعمالِه غيرِ الصالحةِ الباطلةِ ، فوصَفَهُ بالمصدر ( عَمَلٌ ) دلالةً على ذلك ، فأصبح ( عَلَمًا ) في ذلك على سبيلِ الذَّمِّ والقُبحِ على وجهِ الخصوصِ ، والسَّببُ أنَّهُ كان نوحٌ – عليه السلامُ – أباهُ في النَّسَبِ ، رسولًا من أهل العزم ، فلم يَهتَدِ به ابنُهُ الذي هو من صُلبِهِ ، ولم يُؤمِنْ ، وهو أقربُ الناسِ الى الهدايةِ والإيمانِ من غَيرِهِ ، حالُهُ في ذلك حالُ أمِّهِ التي خانَت زوجَها نوحًا – عليه السلام – خيانةً دينيةً عقديةً ، فلم تؤمِنْ به ليس غير ، لأنَّها امرأةُ نبيٍّ رسولٍ معصومٍ ، لذلك ضَرَبَها اللهُ مثلا للذين كفروا هي وامرأةَ لوطٍ – عليه السلام – بخيانتهِما الدينيةِ ، وليس لخيانةٍ أخرى غيرَ الكفرِ بدعوتِهِما والعداوةِ لهما مع قومِهما الكافرين…

وأمَّا القولُ بغير ذلك ، فهو من الظَّنِّ المذمومِ ، والهوى بغيرِ هُدَىً من اللهِ ، وبعيدٍ عن سياقِ القِصَّةِ وأهدافِها الإيمانيةِ العَقَديَّةِ ، والتربيةِِ النفسيةِ والقلبيةِ للمسلمين كلِّهِم أجمعين.

Categories:   الإعجاز فى القرأن و السنة

Comments