Menu

الثقافة العمالية وثورة يناير

بقلم: طارق أحمد مصطفى

قبل يناير 2011 كانت النقابات مهتمة بتداعيات العولمة على العمل النقابي، بدأ الأمر مع ظهور ذلك المصطلح منذ أواسط التسعينات، ومع بدء تطبيق سياسات الخصخصة، فكانت وقتها أكثر برامج التثقيف العمالي رواجاً هي التي تشرح للنقابيين ما هو مفهوم العولمة وماذا يعني مفهوم الخصخصة وأبعاد كل منهما والعلاقة بينهما وتداعياتهما على المستويين المحلى والعالمي، والمستويين الاقتصادي والاجتماعي.
ورغم أن تلك المصطلحات الآن قد صارت شائعة ومعلومة لأغلب الناس ولو بشكل سطحي، إلا أن شرحها في البداية للعمال والنقابيين البسطاء وغير البسطاء كان مهمة ليست بالهينة، لقد قرأت شخصياً – وكنت حديث عهد بمهنة التثقيف العمالي – في تلك الفترة عشرات الكتب والمقالات حتى استطيع أن أحيط بأصول هذه المفاهيم الجديدة من زواياها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتاريخية والإدارية والفلسفية والتربوية والتكنولوجية.
كان أكثر ما يشغل النقابيون في ذلك الوقت من هذه التحولات هو ماذا سيفعلون مع قلة حصيلة نقاباتهم من الاشتراكات بعد عمليات الخصخصة والخروج المكثف على المعاش المبكر، وكانوا فى حاجة لمساعدتهم فى رسم خطط لتنمية العضوية النقابية. دربناهم على مهارات كثيرة كان من أهمها التخطيط الاستراتيجي حتى يمكنها التفكير بشكل أكثر شمولاً حول مشاكلهم. ولم يكونوا منتبهين إلى أن تلك التحولات ربما ستعصف بنقاباتهم ذاتها وهو ما سيعرفونه بعد ذلك بسنوات قليلة.
ويبدو أن رؤية الناس عموماً لحجم تأثير هذه التحولات كان قاصراً، فقد كنا غارقين فى المحلية، بينما كان تسونامي التحولات العالمية قادم إلينا من الخارج، وقد بدأت موجته الأولى مع انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، ثم إعلان إنشاء منظمة التجارة العالمية عام 1995، ولم نكن داخلياً مهتمين بما يكفي بما يحدث فى العالم، حتى أن ثقافة الجميع فيما يتعلق بمعايير العمل الدولية كانت محدودة، فهي معلومات نخبوية لا حاجة لها فى فهم الواقع اليومي، كان الاهتمام فى أوفر حالاته يركز على الاستبشار بسياسة الاصلاح الاقتصادي التي انتهجها مبارك منذ عام 1992، والتي لم تكن خطة حكومية خالصة لتحسين الوضع الاتصادي لصالح الناس، بقدر ما كانت تأثراً بالتحولات العالمية منذ تفاقم أزمة الديون العالمية كجزء من تداعيات انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، وتوجه مصر فى ذلك الوقت إلى ما يعرف بـ”نادي باريس” لبحث جدولة ديونها، واضطرارها لتبني روشتة صندوق النقد الدولي للإصلاح المالي والهيكلي من أجل الموافقة على جدولة الديون.
حكي لى وقتها أحد النقابيين الأعضاء فى أحد النقابات العامة أنه علم بنبأ خصخصة الشركة التي يعمل بها – والتي كانت تمثل وحدها أكثر من ثلاثة ارباع أعضاء نقابته العامة – بينما كان هو ووفد من النقابة العامة في زيارة لإحدى الدول الأوروبية، علم بالخبر من الجرائد مثله مثل اي مواطن عادي، وقد استدعيت وقتها نظرية المؤامرة فتصورت أن هذه الرحلة الأوروبية ربما كانت رشوة لأعضاء تلك النقابة لإبعادهم في وقت اتخاذ هذا القرار الاستراتيجي الخطير.
بدا الوضع كارثياً لاستقرار وثبات النقابات التي ظلت مرتبطة بعقد اجتماعي واضح ومفهوم مع الدولة منذ الستينات، حتى أن القانون الذي نظم العمل النقابي منذ منتصف السبعينات أصبح مهدداً بالسقوط، وقد أهدر كثير من النقابيين – ولا يزالوا – وقتاً طويلاً في مقاومة التغيير ومعاندة التحولات حتى كاد التيار أن يجرفهم كما جرف غيرهم، فقد كان الحرص على بقاء بنيان التنظيم وقتها أقوى من الحرص على حيوية الحركة النقابية المصرية ومرونة استجابتها لمتغيرات الواقع وسرعة التكيف معه، بينما حاولنا من خلال برامج التثقيف العمالي أن نطرح عناوين جديدة مثل إدارة التغيير وإدارة الأزمات والتفكير الإبداعي.
وبعد أن قطعت النقابات شوطاً في محاولة فهم العولمة وتحولاتها، ثم محاولة احتواء تداعياتها، وقد قطعنا عدة خطوات داخل القرن الواحد والعشرين الذي افتتحناه بأحداث 11 سبتمبر 2001 وما ترتب عليها من تحولات عالمية خطيرة – حاولت برامج التثقيف العمالى التنبؤ بها وإعداد النقابيين لها – كانت النقابات على موعد مع صدمات جديدة، وتحركات واضطرابات عمالية عديدة بعيدة عن سيطرة التنظيم النقابي الرسمي، كان أكبرها فى المحلة 2006، وكذلك إضراب الضرائب العقارية 2007، وغيرها فى عدد من المدن الصناعية والمحافظات.
أذكر أننا فى مجال التثقيف العمالي فى هذه الفترة قد حاولنا مواكبة الأحداث ودراسة الاحتياجات التدريبية للنقابيين والعمال، وذات مرة توجهت لزيارة رئيس أحد النقابات العامة – رحمة الله عليه – بمكتبه، وعرضت عليه خطة لتنفيذ عدد من البرامج التثقيفية تستهدف العاملين فى أحد القطاعات الساخنة بالأحداث داخل نقابته، على أن يكون له أو لمن يمثل النقابة العامة فرصة اللقاء بمجموعات من هؤلاء العاملين على هامش الدورة لمحاولة مناقشتهم واحتواء غضبهم وتوضيح الصورة لهم مع ما نقوم به من تدريب على أساليب التفاوض ومهارات التواصل والحوار فضلاً عن تثقيفهم قانونياً، إلا أن رد فعله كان صادماً حيث قال لى ما معناه : “ابعدني عن هؤلاء لا أريد اللقاء بهم فقد اكتفيت منهم”، وقد كان ثمرة هذا التجاهل والموقف الضعيف لهذه النقابة تجاه مطالب هؤلاء العاملين أن قامت من داخلهم حركة نقابية مستقلة طالبت بالانفصال عن النقابة العامة وتأسيس نقابة مستقلة لهذا القطاع الحيوي استناداً إلى معاير العمل الدولية التي صدقت عليها مصر والتى تتيح الحرية النقابية، وهو ما كان بداية لتيار جارف من العمل النقابي المستقل عن التنظيم النقابي الرسمي لم يستطع أحد إيقافه منذ ذلك الوقت ولمدة سبعة سنوات على الأقل.
كان العمال في هذا الوقت محتقنين متحفزين غير واثقين فى توجهات الدولة التي تحابي أصحاب رؤوس الأموال، وكانت محاولة تهدئتهم أو إدخالهم فى مواءمات مظنة التواطؤ ضد مصالحهم، وفي حالات كثيرة كان الشك يملأ العمال نحو ممثليهم داخل التنظيم النقابي الرسمي، وكانت هذه فرصة لظهور زعامات جديدة أكثر شباباً وأقل تقليدية، ونشوء الصراع حول قيادة الحركة العمالية، وكان من المفترض أن يواكب هذه التحولات حركة تثقيفية نشطة تدعم القيم الأساسية المشتركة، وتؤكد على الحد الأدنى من وحدة الفكر، إلا أن ذلك لم يحدث مع الأسف.
وكانت ثورة يناير 2011 فرصة تثقيفية قوية للحركة العمالية من جديد، ولكن كان هذه المرة على يد عدد من المؤسسات الأجنبية والدولية التى استهدفت القيادات النقابية الجديدة التى خرجت من الميادين بطاقة ورغبة جارفة للمشاركة فى الشأن العام من خلال التفاعل مع القضايا العمالية وتفعيل العمل النقابي بشركاتهم ومواقعهم. في المقابل كانت هذه الفترة هي فترة هبوط قوية لبرامج التثقيف العمالي التي تقدمها المؤسسة الثقافية العمالية التابعة لاتحاد عمال مصر، وتراجع ربما لم تعد بعده المؤسسة إلى عهدها الذهبي منذ منتصف التسعينات مرة أخرى.
ولأن الأزمة المالية قد عصفت بالمؤسسة الثقافية العمالية منذ ما قبل 2011 نظراً لأسباب عديدة نذكر الآن من أهمها انصراف المؤسسات الدولية عن دعم هذه المؤسسة نظراً لعدم مواكبتها لأجندة هذه المؤسسات لأسباب القليل منها مبرر وأغلبها غير مبرر، ومن ثم لم تعد المؤسسة قادرة على تمويل انشطة التثقيف العمالى بنفسها كما كان سابقاً، لذلك أصبحت النقابات مطالبة بتمويل برامجها التثقيفية بمواردها الخاصة، وهو ما سحب البساط بالتدريج من تحت قدم المؤسسة الثقافية العمالية التي كانت تنفرد بهذه الأنشطة، بينما انشغل العاملون بتلك المؤسسة بأنفسهم وصراعاتهم وبمشكلاتهم الداخلية المتعلقة بمصادر تمويل المؤسسة الغير مستقرة، وأصبح أغلبهم بالتدريج غير معنيين بالتفكير في تلبية الاحتياجات التدريبية الملحة للحركة العمالية المصرية، ولم تعد النقابات تعتمد على تلك المؤسسة العريقة فى تلبية هذه الاحتياجات بشكل أساسي.
والذي لم ينتبه له النقابيون أن التثقيف العمالي الحقيقي لا يقوم بالجهود الفردية والأنشطة العشوائية ولكنه عمل يحتاج لرؤية استراتجية ويحتاج من ثم لعمل مؤسسي حتى يؤتي ثمرته، وقد كانت ثمرة التثقيف العمالي ناضجة في فترات سابقة حينما كانت الحركة النقابية حريصة على بناء عمل مؤسسي لخدمة القضايا العمالية ولتوحيد فكر أبناء الطبقة العاملة وتأكيد تضامنهم ووحدتهم، وكذلك عندما كانت الدولة واعية بأهمية تثقيف وتدريب وتوعية العمال وفق رؤية وطنية وقومية واضحة باعتبارهم أهم فئة بالمجتمع وهم الشريحة العاملة والمنتجة والمؤثرة. وحين يتراجع العمل المؤسسى عن قضية التثقيف العمالي يكون هذا إيذان بتفكك العمل النقابي نفسه وتلاشيه مع الوقت، فلا نقابات على الحقيقة بدون توعية وتثقيف، حتى وإن بقيت الكيانات شواهد على مراحل ذهبية قد ولت وولى أصحابها.

Categories:   أعمدة الرأى, تثقيف عمالى

Comments