Menu

رسائل المطر

بقلم: طارق أحمد مصطفى

وقفت في شرفة منزلى أتابع هطول الأمطار العنيفة وأدعو الله بما يلهمني إياه، لحظات صمت بين كل دعوة وأخرى، لا يسمع خلالها سوى وقع قطرات المطر الثقيلة على الأرض والأسطح، الشوارع خالية والبشر صامتون، ومن بعيد أناس مثلي فى الشرفات المقابلة يتابعون ويدعون ويتأملون، ولا يقطع حالة الصمت إلا قرقعة الرعد المدوي على امتداد السماء.
بدت لى زخات المطر وقرع الرعود تحمل رسائل تبحث عمن يفهمها ويعقلها !
أين أنتم الآن أيها البشر، ما الذي حبسكم فى البيوت وأغلق عليكم النوافذ والأبواب، لماذا خلت منكم الشوارع والطرقات والأسواق، أين ذهب ضجيجكم اين تلاشت خططكم ومساعيكم.
ها أنتم أيها البشر، واقفون عاجزون، لاحيلة لكم، ومهما بلغت تنبؤاتكم واستعداداتكم فليس بمقدورها أن تمنع تحقق قدر الله فيكم.
ها أنتم تلجأون إلى الله بالدعاء والمناجاة، تتذكرون الآن الله تعالى جيداً فى ساعة الاضطرار، تلجأون إليه فى ساعة الخوف.
هل رأيتم كم أنت صغار ضئيلين أمام آية بسيطة من آيات الله، هل تفكرتم في حجمكم بالمقارنة بحجم بعض مخلوقات الله التي تفوقكم حجماً، هل تأمل أحدكم قول الله تعالى:
أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا *رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ
أفيكم من لا يزال يري نفسه محور الكون ومركز مدار الكرة الأرضية، هل أحدكم لا زال يعتقد بأن تلك المشكلة التافهة التي كان يفكر بها قبل هطول هذه الأمطار الغزيرة هي بنفس خطورتها وأهميتها البالغة التي كان يظنها.
وأنتم تشاهدون كمية الأمطار الهاطلة والمياة المتدفقة هل لا زلتم تظنون أن ما عند الله قليل وأنه يعجزه أن يفيض عليكم من الخير والرزق بأكثر مما تتخيلون ومن حيث لا تحتسبون.
وأنتم تشاهدون الأضرار التي جرت لبعض الأماكن والبشر جراء هذه الأمطار، هل أدركتم حكمة أنه سبحانه ينزل عطاءه ولكن بقدَر. ألا ترون أن الأرزاق إذا هطلت عليكم بأكثر مما تحتمل طرقات نفوسكم ربما تحطمت معها حصون القيم والضمير والأخلاق والإيمان، كما حطمت السيول المنازل الواهية ودمرت الطرقات الهشة.
هل علمتم الآن أنكم إن أردتم هطول الأرزاق عليكم فلتمهدوا طرقات وأودية نفوسكم أولاً حتى تذهب الزيادة فى مصارفها وما ينفع الناس يمكث فى الأرض.
واؤلئك الذين خرجوا فى هذه الأجواء مضطرين، رغم أنه لا أحب لهم في ذلك الوقت من بيت آمن وفراش دافئ وكوب من الشاي الساخن، ما الذي سحبهم من بيوتهم وأخرجهم فى هذا الجو المتقلب بعيداً عن أهلهم، وألقاهم دون غيرهم فى الطريق.
منهم من سخرتهم الأقدار لنفع الناس وخدمتهم، ومنهم من كان اضطرارهم للخروج من أجل لقمة عيشهم عبرة لغيرهم ممن يتبترون على معيشتهم، ومنهم من لا حاجة بهم للخروج سوى أنه جرى عليهم قدر الله فبرزوا إلى مضاجعهم حتى يعلم من يعلم أنه لا عاصم من أمر الله إلا برحمته.
هل فكرتم وأنتم تشاهدون هذه الكمية الكبيرة من المياة القادمة إليكم من السماء بغير ميعاد في الوقت الذي يتصاعد فيه خوفكم من أزمات المياه ويحتدم من أجلها صراعكم مع جيرانكم فى الجنوب، وكأن السماء تخبركم ها أنا لم أقصر معكم فى العطاء فلا تقصروا فى حق أنفسكم وتتركونه يذهب سدى، وفكروا كيف ستخزنون هذا الرزق الوفير من مياه الأمطار للاستعانة به فى أوقات الشح والأزمات.
هل فكرتم أن السماء لم تقصر من قبل معكم ودوماً تأتيكم الألطاف الإلهية لتنجيكم مما تخافون ولكنكم لا تتعلمون وتعودون كل مرة لارتكاب نفس الأخطاء.
هل رأيتم وأنت تتابعون هذه الأضرار التي جرت أنه كان في مقدوركم أن تتجنبوها أو تخففوا منها لو أنكم لم تتكاسلوا وتركنوا إلى الراحة وتتراخوا فى إتقان العمل ومحاربة الفساد والمسائلة عليه في وقت الأمان والرخاء وعملتم حساب ما ستعانونه فى وقت الشدة.
هل تعلمتم الحكمة من تأمل آيات الله، وأدركتم أن محاسبة كل منكم نفسهم، أولى من حسابتكم لبعضكم البعض، هل أدركتم أن الناس لا ينقسمون إلى مسئولين ومواطنين، فمن تظنونه مسئولاً هو شخص مثلكم مثله من إفراز ذات المجتمع، يحمل جيناته ومزاياه وعيوبه، وهو مسلط عليكم من أعمالكم، وتقصيره نابع من تقصيركم فى الأساس.
ها هو ذلك المسئول يقف مثلكم عاجز عن إيقاف السيل وتحويل مساره، يقف مثلكم عاجز عن دفع الضرر عن نفسه وعنكم، لو كان بيده لفعل، على الأقل من أجل أن يرفع عن نفسه الحرج، لعله الآن يتمنى فى قرارة نفسه أن يرجع إلى صفوف الجماهير، ويجنب نفسه كل هذا القلق والأرق واللوم والمسئولية أمام الناس وأمام الله، لعله يعاتب نفسه التي تمنت موقع المسئولية وسعت له وحاربت من أجله، ولكن كبرياءه سيمنعه من إعلان ذلك، والمنافقون سيستمرون فى أداء دورهم فى تزيين الأمر.
هل تعلم الناس أن الصراخ والضجيج والتشدق والتهكم لا يحل إشكالاً ولا يعالج أزمةً ولا يصحح خطأً، فتلك الانفعالات مهما ظنناها كافية لحفظ ماء الوجه الذي ينهمر كما تنهمر السيول لن تغني شيئاً عن العمل وبذل الجهد وتقديم يد العون.
فإيقاد شمعة كما قيل خير من أن نلعن الظلام، والكلمة الطيبة صدقة، والدال على الخير كفاعله، وإلا فالتأمل فى صمت يكون دائماً أكثر شرفاً من ضجيج بلا طحن.
رسائل كثيرة يرسل بها المطر المنهمر على الرؤوس والبيت والشوارع، تحتاج فقط لمن يستقبلها ويفهمها ويتعلم منها، قبل أن تنقشع الغيوم وتجف المياه ويعود كل منا لما كان فيه وكأن شيئاً لم يكن.

Categories:   أعمدة الرأى

Comments