Menu

أسباب متعددة للتحرش . . محاولة للرصد


بقلم: طارق أحمد مصطفى

كل فترة وأخرى تتصدر قضية التحرش الجنسي واجهة القضايا المجتمعية واهتمامات الرأي العام، كلما ظهرت واقعة جديدة مؤسفة تفجر الحوارات وتجرّئ المزيد من الفتيات والسيدات على الحديث عن معاناتهن مع هذه الجريمة الأخلاقية المشينة.
وقد اتفق العقلاء على أنه ليس هناك تبرير مطلقاً للتحرش، لا من حيث العرف ولا الأخلاق ولا القانون ولا الطب النفسي، فهو جريمة مثلها مثل أي جريمة أخرى، بل يعد من أخس الجرائم. كما اتفق العقلاء كذلك على ضرورة تشجيع المرأة على التحدث عن معاناتها وشكوى المتحرش من أجل الحصول على حقها قانوناً، بشكل يردع كل من تسول له نفسه التعدي باللفظ أو باليد على شرف الأنثى وعرضها.

وإذا كان التحرش جريمة لا يمكن تبريرها، فإن تفشيها وتعدد حالاتها يتطلب منا دراستها من كافة الجوانب لمحاولة فهم لماذا يصدر هذا السلوك عن المتحرش، وكيف يتجرأ عليه، وإلى أي مدى هو مدرك لخطأه وقابل للتقويم، حيث أن الواقع يصدمنا في كثير ممن يخدعنا مظهرهم ولا يُتوقع من أمثالهم القيام بمثل هذه الجريمة، إلا أنهم يقعون فيها، من حيث يظنون أنه لا بأس عليهم.
ويعرّف القانون المصري التحرش الجنسي بأنه كل تعرض للغير فى مكان عام أو خاص بإتيان أمور أو إيحاءات أو تلميحات جنسية أو إباحية سواء بالإشارة أو بالقول أو بالفعل بأى وسيلة بما فى ذلك وسائل الاتصالات السلكية أو اللاسلكية. وغالباً ما يقصد المشرع هذا النوع من التعرض غير المقبول من المجني عليها والذي يكون مؤلم ومهين نفسياً أو جسدياً لها ومن ثم يمثل انتهاكاً لحرمتها.
ولعل من الظواهر الغريبة التي رصدها الكثيرون فى مجتمعنا، تساهل بعض أفراد المجتمع – رجالاً ونساءاً – فى كثير من الحالات مع المتحرش والتهوين من شأن جريمته، بل ربما مساعدته على الإفلات من العقاب القانوني ظناً منهم بأنه عقاب أقسى من الجريمة، والأغرب من ذلك توجيه اللوم أحياناً للفتاة أو السيدة التي تجرأت على مواجهة المتحرش واتهامها بقلة الحياء. وهذا الأمر فى تقديري راجع إلى اعتياد أفراد المجتمع على تجرع القهر وتقبل الإهانة في حياتهم اليومية وتعايشهم مع هذه الحقيقة بمبررات نفسية واجتماعية وسياسية عديدة، حتى تحول الأمر إلى طابع عام لثقافة فئة ليست بالقليلة من المجتمع خاصة البسطاء وغير المثقفين والكثير من أبناء الطبقة المتوسطة، لذلك تجد هؤلاء يستفزهم الأشخاص المعتزين بأنفسهم الرافضين لانتهاك حقوقهم، فما بالك إن كان هؤلاء الأشخاص من النساء، اللاتي يُظَن بأنهن الأجدر بالاستكانة وقبول الأمر الواقع والتعايش معه.

وهنا يبرز جانب آخر له أبعاده النفسية والاجتماعية والثقافية المتراكمة، ويعد تجلي لتجذر الشعور بالقهر واحتقار الذات داخل المجتمع، ألا وهو احتقار المرأة من قبل من يمارس التحرش ومن يهون من شأنه، بل وازدراءهم للأنوثة بشكل عام واعتبارها من مظاهر النقص في التكوين البشري، ومن ثم موافقتهم وتقبلهم لسلب حقوق النساء لتصورهم أن المرأة كائن ناقص الأهلية غير قادر على إدارة مصالحه، مخلوق فقط من أجل الرجل، وخاضع بالكامل لولايته كنوع من الحق الإلهي المطلق الراجع للتفوق الجـِبـِلّي للرجل، ومن ثم يعتبرون أنه علي المرأة أن تتقبل هذه الحقيقة وأن تقبل فقط ما يمنحه لها بصدر رحب مع التعبير عن الامتنان، ويأتي التحرش هنا كتعبير رمزي على الرغبة في إذلال المرأة وتأكيد إحساسها بالهوان والخضوع وتفوق الرجل عليها. وتلك ما تسمى بالنظرة الذكورية.

وفي سعي المتحرشين أصحاب النظرة الذكورية لإذلال المرأة هناك أيضاً سعي مبطن لديهم لتأكيد امتلاكهم للشوارع والأسواق وأماكن العمل والتعليم، فكثير منهم يستفزه مزاحمة المرأة له فى فرص العمل وفرص التعليم، والتي تضع معايير موضوعية للتفوق لا تفرقة فيها بحسب النوع، ومن ثم يعطيها الفرصة للاستقلال وعدم الخضوع لتحكم الرجل، بل ومزاحمتها له فى الحكم والإدارة وامتلاك السلطة، وتتجلى هذه السلطة أول ما تتجلى ف امتلاكها سلطتها على جسدها، فتستطيع أن تقبل أو ترفض الاقتراب منها كما تشاء في ظل حماية المنظومة الأخلاقية والقانونية للمجتمع، ومن ثم فإن التحرش بالمرأة فى الطريق وفي أماكن العمل والتعليم يعتبر كذلك تعبير رمزي عن الرغبة في حصرها داخلى وظيفتها الجنسية وإزاحتها خارج إطار المنافسة على الفرص الاقتصادية، التي يرون أنها قليلة فى الأساس فكيف بها إذا زاحمتهم فيها النساء.
ومع تأكيدنا أن تلك النظرة الذكورية الدونية للمرأة هي صورة غير سوية للعلاقة بين الجنسين، وهي بالتأكيد ليست ما عليه غالبية الناس، إلا أن السينما – في تقديري – قد ساعدت بشكل أو بآخر على ترسيخ فكرة احتقار المرأة وخاصة عند فئات كثيرة من الشباب والمراهقين ، من خلال مكتبتها من المشاهد والإفيهات الكوميدية التي كثيراً ما تصور المرأة على أنها مخلوق شَبِق، تتمنع وهي راغبة، وتتستر بالحياء لتخفي حقيقتها الشهوانية، وتُنكر بدلال على المتحرش بينما تخفي سرورها واستعدادها لما هو أبعد، لذلك عندما يمارس هؤلاء المراهقين تحرشهم فهم وكأنهم يريدون أن يزيحوا عنها هذا الستر الذي تخفي وراءه ما يظنونه حقيقتها، بل إن البعض منهم من كثرة ما شاهدوا ذلك على الشاشة يختل إدراكهم ويظنوا أن تلك هي الطريقة الطبيعية للوصول للنساء والتعامل معهن.

وعلى الرغم من مطالبتنا للفنانين بأن يكونوا أكثر مسئولية وأن يراعوا أن وعي المشاهدين والمستمعين ونضجهم الوجداني ليس على نفس المستوى، إلا أن هذا لا ينزع عن المتحرشين وصمة الخلل النفسي والأخلاقي. فالفنون بطبيعتها وبحكم وظيفتها تسعى لإبراز المشاعر الإنسانية والتعبير عنها ومساعدة الناس على فهمها والارتقاء بها، وتستخدم في سبيل ذلك كافة الحيل وأساليب التأثير، إلا أن هؤلاء لديهم عطب وجداني يعيقهم عن التعاطي مع الفنون وتذوقها، ولديهم خلل في التفرقة بين الخيال والواقع وما يجوز وما لا يجوز، فالأسوياء يشاهدون ويسمعون ويتعرضون للتجربة الشعورية التي يقدمها لهم العمل الفني ويستمتعوا بها ومع ذلك يظلوا محتفظين باتزانهم.

ولا شك أن غياب الوازع الديني والأخلاقي وخفوت النزعة الروحانية تعد من أهم أسباب هذا الخلل المؤدي للوقوع فى هذه الجريمة وكل جريمة، حيث أن القرب من الله يولد التقوى في النفس ومراقبة الخالق، وتساعد المرء على كبح جماح غرائزه وشهواته التي قد تقوده إلى هذا الفعل. كما أن ضعف الإيمان الناتج عن انخفاض الوعي الروحي لدى المتحرش يجعله لا يستطيع أن يدرك من الكيان البشري إلا الجسد، ولا يسعى للتواصل إلا عن طريقه، أما القرب من الله فإنه يعلم الإنسان التواصل بشكل أرقي مع الروح وما يتصل بها من نفس وعقل باعتبارها تشكل حقيقة ما عليه الإنسان.

وليس غياب الوازع الديني فقط، ولكن هناك كذلك ضعف المهارات الشخصية وعلى رأسها مهارات التواصل، التي تجعل شخص المتحرش ليس لديه القدرة على استخدام مهارات تواصل فعالة وسوية تراعي المعايير والفوارق الاجتماعية والثقافية والبيولوجية، فيفعل ما يظنه تواصلاً وهو في حقيقته اعتداء، وفي المقابل فإن ضعف مهارات التواصل لدي كثير من النساء وضعف ثقتهن فى أنفسهن يجعلهن عاجزات عن التعبير بوضوح ومباشرة وبشكل لا يقبل اللبس عن امتعاضهن واستياءهن من فعل التحرش، وهو ما يرسل للمتحرش رسالة عكسية بأنه لا مانع من أن يستمر.
ونأتي لنقطة طالما أثارت جدلاً عند طرح هذه القضية، ألا وهي ملابس المرأة، ومدى مسئوليتها عن تشجيع فعل التحرش من عدمه، فبعض الناس وخاصة من المتدينين المحافظين يرون أن المرأة عليها أن تحافظ على الحشمة فى ملابسها لتجنيب نفسها تعرض المتحرشين غير الأسوياء، على اعتبار أن المجتمعات كلها لا يمكن أن تخلو من غير الأسوياء، وهم هنا يرون أن المرأة تعتبر مسئولة عن وقوع التحرش بها إن كانت ملابسها مكشوفة ومثيرة لغرائز الرجال، بينما في المقابل يرى آخرون أنه بغض النظر عن ملابس المرأة فلا يجب أن نلقى اللوم عليها وتحميلها المسئولية وهي المجني عليها ، فالمسئولية كاملة تقع على المتحرش.

وحتى نفهم هذا النقطة بشكل أعمق، يجب أن نفهم أولاً أن الملابس ليست مجرد قماش لستر العورة، وليس تصميمات جميلة نزين بها أجسادنا، ولكنا مع كل ذلك تعد لغة، وأداة للتعبير والتواصل الثقافي، فهذه القطع من الأقمشة وتلك التصميمات المبتكرة فضلاً عن وظائفها التقليدية فإن لها وظيفة ثقافية مهمة للتعبير عن الهوية والولاء والانتماء والفلسفة فى الحياة، وهي كذلك أداة للتعبير الاقتصادي والاجتماعي، وأداة تصنيفية وتميزية وتحفيزية. ومن ثم فإن مهارة قراءة دلالات الملابس وحسن استخدامها لأداء وظيفتها الثقافية هو مثل مهارة قراءة لغة الجسد يعطي قدرة للشخص على تحديد طريقته فى التواصل مع الناس وفق ثقافة كل منهم ومعاييره الاجتماعية.

وحيث أن ثقافة مجتمع مثل المجتمع المصري ليست كتلة موحدة ولكنها متعددة الوجوه والأنماط متنوعة المشارب، فإنه يظل بين هذه المشارب والأنماط الثقافية حوار وصراع، تسعى من خلاله كل ثقافة للتعبير عن نفسها ومحاولة تعميم نسقها المعياري، فإن الملابس هنا هي أحد أهم ساحات الصراع، فقد يفسر الرجل في البيئة المحافظة أن تعمد المرأة الظهور بملابس مكشوفة هو استهانة برجولته وتحدياً لكبرياءه ومعاييره، وقد يفسرها الرجل فى البيئة المغلقة أنها إعلان للمرأة عن نفسها بأنها متاحة للرجال، فيتصرف على هذا الأساس وهو لا يعلم بما تعنيه تلك الملابس في ثقافة تلك المرأة، وفي كلى الحالتين قد يلجأ للتحرش كنوع من التعبير الرمزي لرفضه تحدي هويته وكبرياءه.

ولعلنا قد رأينا حالات كثيرة حدثت لبعض المحجبات فى البيئة الأوروبية، حيث تعرضن للتعدي بالضرب والشتم و التحرش و محاولة نزع الحجاب بالقوة، وذلك لأن هؤلاء المتحرشين اعتبروا جرأتهن على السير بحجابهن بكل حرية في الشوارع الأوربية هو نوع من التحدي للنمط الثقافي السائد.

لذلك فإن المناخ الذي يتسم بالتعددية الثقافية، و يتيح للناس التواصل الفعال الإيجابي مع أشخاص من ثقافات متنوعة، هذا هو المناخ الداعم لنمو قدرات أفراد المجتمع على تفهم تلك الثقافات وتقبلها والتسامح معها واكتساب مرونة الفكر وانفتاح العقل، أم المناخ المتربص الذي يمارس فيه أصحاب الثقافات المتنوعة العنف اللفظي والإرهاب الفكري والتنمر الثقافي على بعضهم البعض، هو بيئة خصبة لنمو كافة الأمراض المجتمعية وعلى رأسها التحرش الجنسي.

Categories:   أعمدة الرأى

Comments