Menu

المواجهة المصرية الإثيوبية . . ما بين أبي أحمد وعمو نصر


بقلم: طارق أحمد مصطفى

يخطئ من يتصور أن أزمة أثيوبيا مع مصر هي أزمة وليدة السنوات الأخيرة أو حتى العقود الأخيرة، ولكنها فى الحقيقة أزمة ضاربة في أعماق التاريخ. فرواة التاريخ قد رصدوا لنا العديد من المواجهات العسكرية المصرية الإثيوبية، قديماً وحديثاً، التي تبادلت فيها الدولتان النصر والهزيمة، وكذلك يقدمون لنا أدلة أخرى على الارتباط الثقافي والعرقي بين الشعبين، حتى أن أحد الروافد العديدة لتكوين الشعب الأثيوبي مرتبطة بأصول نوبية مصرية، وكثير منهم كانوا يعبدون الآلهة المصرية القديمة، كما أن اللغة الهيلوغريفية كانت مستخدمة هناك وأثرت فى اللغة المحلية. وفي عصر أكثر حداثة ظل الارتباط وثيقاً ما بين الكنيسة الأرثوذكسية القبطية وبين نظيرتها الإثيوبية، وربما لا يزال هذا الارتباط قائماً حتى وقتنا هذا بدرجة أو بأخرى. وكثيراً ما كان لهذا الارتباط دور مهم في حل الأزمات السياسية بين الدولتين.

ولعل من أقرب المراحل التي شهدت صداماً عسكرياً مصرياً اثيوبياً هو عهد الخيديوي اسماعيل في النصف الأول من القرن التاسع عشر، حيث دخل هذه المواجهة كنوع من رد الاعتبار بعد اعتداءات يوحنا امبراطور إثيوبيا على مناطق النفوذ المصرية. وكانت مصر فى هذه الفترة تسيطر على ساحل البحر الأحمر حتى حدود إريتريا الواقعة تحت سيطر الإيطاليين الممتدة سيطرتهم لأغلب منطقة القرن الإفريقي والراغبين في اقتطاع نصيب أكبر من الكعكة الإفريقية التي تقتسمها دول أوروبا الاستعمارية، تلك الكعكة التي كانت سبباً فى الصراع الذي استمر بينهم حتى الحربين العالميتين بالقرن العشرين، وربما هو صراع ممتد إلى وقتنا هذا بين القوى الكبرى بشكل أو بآخر.

في تلك الفترة ارتبطت المصالح الاقتصادية لانجلترا بمصر، حيث كانت تريد أن تجعل منها نقطة انطلاق للتوسع في إفريقيا، وقد أراد الجميع استخدام قناة السويس – الحديثة الافتتاح – لعبور سفنهم التجارية والحربية لهذه المناطق، وهو سبب إضافي حفز الانجليز فيما بعد على احتلال مصر لإحكام السيطرة على القناة.

ولأن حكام إثيوبيا كانوا يواجهوا أطماع الإيطاليين، وتعددت مواجهاتهم معهم، بل وتحقق لهم نصراً كان محرجاً للإيطاليين في عدد من المواجهات، وعلى الرغم من الأزمات الداخلية الكبيرة والانقسامات والحروب الأهلية وحالة الفقر والتخلف الشديدة التي كان يعيشها أبناء القبائل الإثيوبية إلا أن هؤلاء الحكام كانوا طموحين، ويريدون أن يكون لهم موضع قدم على البحر الأحمر، لذا قاموا بالاعتداء على مناطق النفوذ المصرية القريبة من حدودهم، وهو ما استدرج الخديوي اسماعيل إلى مواجهتهم، بتشجيع من مستشاريه الأوروبيين وخاصة الانجليز، وبدعمهم بل وتحت قيادتهم العسكرية، إلا أنه لم يكتب التفوق في هذه المواجهة للجانب المصري، وكان ذلك من الأسباب التي عجلت بإسقاط حكم إسماعيل ثم باحتلال انجلترا لمصر، ومن ناحية أخرى فقد أعاد الإيطاليون الكرّة على الإثيوبيين بقوة أكبر بعد ذلك بسنوات وضموا مساحات واسعة من إثيوبيا لسيطرتها.

ولعل من أكثر ما يقرب لنا أجواء هذه المرحلة ما حدث فى حفل افتتاح قناة السويس، حيث أراد الخيديوي اسماعيل أن يكون حفلاً اسطورياً يبهر به ضيوفه من قادة ونبلاء أوروبا، وما الذي يبهر أكثر من الحضارة المصرية القديمة. وقد كان عالم المصريات الفرنسي أوجاست مارييت هو مدير الآثار المصرية في ذلك الوقت، فقام بكتابة أوبرا استلهم فيها حكاية من التاريخ المصري مناسبة للأجواء وللظروف السياسية وللتحديات التي تواجه الخيديوي وكذلك لأطماع الأوروبيين ومخططاتهم من وراء افتتاح القناة، فكان أن استلهم الحكاية التي عرضتها “أوبرا عايدة” الشهيرة، وكتب لها النص الأوبرالي الشاعر الإيطالي “انطونيو جسلانزوني”، ووضع موسيقاها الشهيرة الموسيقار الإيطالي “فيردي”.

تحكي هذه الأوبرا العالمية عن أميرة حبشية وابنة لملك الحبشة اسمها “عايدة”، أحضرها المصريون ضمن الأسرى فى أحد غزواتهم لمنابع النيل دون أن يعرفوا هويتها، وصارت من وصيفات “أمينريس” ابنة ملك مصر، ولكنها استطاعت أن تسرق منها قلب القائد العسكري “راداميس”، الذي يكلفه الملك بمباركة الآلهة بملاقاة جيش “عمو نصر” ملك الحبشة القادم فى طريقه لينتقم لكرامته القومية ويستعيد ابنته من الأسر، وكانت “عايدة” قد بادلت راداميس محبته بمحبة كبيرة وأصبحت ممزقة بين رغبتها فى عودته سالماً ورغبتها فى سلامة أبيها وبني وطنها، ولم تستطع أن تفعل شيئاً غير أن تبتهل للآلة. وعندما عاد راداميس منتصراً مكرماً وجدت أباها ضمن الأسرى متخفياً في ثياب جندي، فسعدت بنجاة الاثنين، ولكن ساءها إعلان الملك لزواج ابنته من القائد المنتصر راداميس، كما ساءها حال أبيها فى الأسر. وعندما التقت به خلسة أراد منها أن تهرب معه ولكن بعد أن تستدرج حبيبها راداميس ليبوح لها بمسار الجيش الذي سينطلق مواصلاً مطاردة جيش الحبشيين، وهو ما أوقع عايدة فى تمزق جديد. وبينما كان الحبيبان يتناجيان ويبوح كل منها للآخر بأسراره، لم يكونا يعلمان أن هناك من يتجسس عليهما ليوقع بهما، والد عايدة الملك “عمو نصر” الذي هرب بعد معرفة أخبار الجيش، و”أمينريس” ابنة الملك التي أرادت كشف خيانة راداميس لها مع جاريتها. وعندما علموا أن عايدة هي ابنة الملك الحبشي وأن راداميس ساعدها على الهرب مع أبيها بعد أن حصل على خطة الجيش، وجهوا لراداميس تهمة الخيانة العظمى ونزعوا منه ألقابه وحكموا عليه بالدفن حياً. وعند تنفيذ الحكم ونزوله إلى المقبرة، وجد عايدة في انتظاره بداخلها حيث لم تلحق بأبيها وبقيت لتدفن مع حبيبها، لتقدم صورة من صور التضحية من أجل الحب.
تلك الميلودراما التي تحفل بها هذه الأوبرا، لعلها تحاكي الميلودراما التي تشهدها العلاقات المصرية الإثيوبية عبر التاريخ، فما بين الحب والتقارب والتواصل الإنساني وبين المنافسة الحضارية والاعتزاز القومي والثأر الوطني تدور رحى التاريخ بين هذه الشعبين، وعلى الرغم من أواصر القربي الكثيرة التي تجمع بينهما، والروابط الثقافية التي تقربهما، والمصير المشترك الذي يجمعهما، إلا أنه عبر كل دورة من دورات التاريخ هناك من القوى الكبرى الطامعة فى ثروات وموارد هذه المنطقة والطامحة إلى بسط نفوذها على هذا المعبر الأهم للتجارة العالمية من يغزي النعرات ويفرق الكلمة.
وعندما ننظر إلى الأزمة التي نعيشها اليوم، حيث يصطدم طموح الشعب الإثيوبي بحقوق الشعب المصري، ونرى – ربما بحكم انتمائنا الوطني – أن الجانب المصري لا يزال هو الأكثر صبراً على التفاوض والأكثر نضجاً فى تفهم طموح الطرف الآخر فى التنمية والأكثر حرصاً فى مد اليد بالتعاون وتجاوز الخلافات والأقل رغبة فى الوصول للصدام العسكري! نتسائل: هل يفعل رئيس الوزراء الإثيوبي “أبي أحمد” مثل ما فعله “عمو نصر” ملك الحبشة فى أوبرا عايدة، فيفضل الاستجابة لنعرته القومية وطموحاته السياسية، ويضع مصير ابنته (شعبه) على المحك، أم يتعلم من عبرة التاريخ فيعلم أن مواجهات الشعبين أبداً لم تكن فى صالح كليهما، ولا تساعد إلا القوى الاستعمارية الراغبة فى السيطرة ونهب الثروات وكسب عقود إعادة الإعمار. هل تراه يتدبر ويعلم أن مصير عايدة الإثيوبية ومصير حبيبها راداميس المصري مرتبطان، إما فى حياة واحدة أو في قبر واحد ؟!

Categories:   أعمدة الرأى

Comments