Menu

أصبح عندي الآن مرجعية!

بقلم الأستاذ : عبد المنعم مصطفى كاتب صحفي مصري

أعشق الاستماع إلى قصيدة الجندول للشاعر الراحل “علي محمود طه” بصوت وموسيقى الموسيقار “محمد عبد الوهاب”. لكن أكثر ما أعشقه في هذه القصيدة هو خطأ لغوي وقع فيه “محمد عبد الوهاب”، وصححه عميد الأدب العربي “الدكتور طه حسين”.
أحب الانصات كثيراً إلى خطأ عبد الوهاب وهو يغني:
” غير يوم لم يعد يذكر غيره يوم أن قابلته (بفتح التاء) أول مرة ” !
ثم يكرر عبد الوهاب ذات المقطع مصححاً الخطأ اللغوي، بضم التاء في المرة الثانية.
ما الذي حدث في الثواني التي فصلت بين المرتين ؟!
يقول الموسيقار الراحل:
((كنا في استوديو الإذاعة نسجل قصيدة الجندول، وقد استعد مهندس الصوت الفرنسي – بتعليمات صارمة منه – بأنه لا مجال للتكرار، وأن التسجيل سوف يتم دفعة واحدة دون توقف، وكان عميد الأدب العربي “الدكتور طه حسين” يشهد معنا التسجيل بالاستوديو، فما إن وصلت إلى هذا المقطع الذي أقول فيه “غير يوم لم يعد يذكر غيره يوم أن (قابلته)” بفتح التاء، حتى لاحظت أن “د. طه حسين” يتململ في مقعده كأسد تعرض عرينه للتطاول، وعندها كررت المقطع، بعدما صححت نطقي لكلمة (قابلته) بضم التاء، فلاحت أمارات الرضا على وجه د. طه حسين وانفرجت أساريره، وواصلت أنا الغناء))!
التسجيل الذي نسمعه لهذه القصيدة المغناة هو ذاته الذي يضم الخطأ ويضم تصحيحه، وكأنما ليذكرنا في كل لحظة بقيمة من أسميهم بـ “جيل الحراس”. فلولا وجود “د. طه حسين” بالاستوديو، لفسدت القصيدة العصماء بموسيقاها الرائعة وملحنها الفذ.
وجود “حارس اللغة” في الاستوديو – ولو بالصدفة – صان هذا النص من العبث، وحمى اللغة من العدوان، و علمنا أهمية أن يكون لدينا حراس لكل شيء من الشعر إلى اللغة إلى الطب إلى المالية والاقتصاد والسياسة والحرب والإعلام وكافة مناحي الحياة.
لا زلت أذكر، كيف وقف الاستاذ “أنيس منصور” بثيابه (الكاجوال) وسط صالة التحرير بمجلة أكتوبر موبخاً بعض الزملاء، بقوله: “أنتم جيل لم يتتلمذ جيداً في الصحافة”!!
ران صمت ثقيل على صالة التحرير وهو يطالع وجوه زملاء وزميلات، قبل أن أنبري أنا بالرد قائلاً:
“ربما لأن هذا الجيل الذي تقصده لم يجد أساتذة يتتلمذ عليهم. كان جيلكم محظوظاً بوجود طه حسين وعباس العقاد ولطفي السيد وسلامة موسى وزكي نجيب محمود ولويس عوض ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وغيرهم وغيرهم ….” !!
كان ردي قاسياً يمكن أن يحاسبني الأستاذ “أنيس منصور” عليه، لكنه صمت وكأنني كنت أذكره بحقيقة نسيها وسط مشاغله الكثيرة.
كنت محظوظاً أن اتخذت لنفسي حراساً، يردونني عن الخطأ، ويصونون ما أنتجه من شبهة الاستسهال أو الاستخفاف أو عدم تحري الدقة. فقد رحت أذكر نفسي وأنا أكتب بأن الأستاذ “هيكل” قد تقع عينه على ما أكتبه، وأن “د.إبراهيم زكي خورشيد” قد يرى ما أترجمه، وأن الأساتذة “أحمد بهاء الدين” و”صلاح حافظ” و”موسى صبري” و”مصطفى أمين” و”أنيس منصور” و”د. أسامة الباز” قد تقع أعينهم على ما أكتب أو أطرح أو أنشر.
اخترت حراسي بنفسي، وقبلت بيني وبين نفسي أن أضعهم – دون علمهم ، ودون استئذانهم، وربما دون موافقتهم – حراساً لما أكتب وأنشر من نصوص وأفكار وتقارير وأخبار. وكنت أردد داخلي باعتزاز – كلما عرفت أن أحدهم قد اطلع على ما أكتبه أو أقوله: “أصبح عندي الآن مرجعية”، محاكياً قصيدة الشاعر المبدع نزار قباني “أصبح عندي الآن بندقية” التي لحنها الأستاذ “عبد الوهاب” وغنتها كوكب الشرق “أم كلثوم” عام ١٩٦٩.
هذه المرجعيات، وهؤلاء الحراس، هم من صانوا أسس حضارة إنسانية انتعشت ورسخت أقدامها في الغرب، حيث ينال جيل الحراس فيها كل الاهتمام ويوضع موضع التقدير. فبدون هؤلاء الحراس، تتراجع قيم الإجادة والإتقان والدقة، وهي قيم لا تعيش الحضارات إلا بها، ولا تسود الشعوب بغيرها. لكننا مع الأسف بتنا نتلفت حولنا فلا نرى سوى القليل من الحراس، فأغلبهم قد رحلوا، و بعض أحياءهم قد لاذوا بالصمت مكتفين من غنيمة العمر بالإياب.

Categories:   أخبار, أعمدة الرأى

Comments