Menu

خطل القوة الخشنة

بقلم : أ. د. عبد العظيم حماد*

(ستالين والبابا أو القوة والتاريخ …)
(وفِي التعبير الشعبي : العقل والعضلات)

عندما قرر الطاغية السوفييتي (جوزيف ستالين) بعد الحرب العالمية الثانية إسناد السلطة في دول ألبلقان و أوروبا الشرقية والوسطي لأحزابها الشيوعية من خلال إنتخابات صورية ، أبدي وزير خارجيته مخاوف من تنفيذ هذه الخطة في رومانيا بالذات بحكم أنها البلد الكاثوليكي الوحيد في البلقان وسط إقليم أرثوذكسي ، وكان الدور لم يأت بعد علي كل من بولندا و المجر الكاثوليكيين أيضا ، وكانت مخاوف الوزير تنصب علي أن البابا سوف يغضب ولا مصلحة في إغضاب كل كاثوليكي العالم الذين سيغضبون لغضب البابا ، وإذا كان ستالين قد تخلي عن الشيوعيين في اليونان الأرثوذكسية في صفقة مع (تشرشل ) فما المانع من استثناء رومانيا أيضا ؟
فماذا كان رد ستالين ؟
نظر الي وزيره بإستغراب قائلا :
كم فرقة عسكرية يملكها البابا ؟
طبعا ، أفحم الوزير وفعل الطاغية ما أراده ،وتغلب منطق القوة أو تغلبت العضلات علي العقل.

و تمر أربعة عقود أو أقل قليلاً لنشهد واحدة من أهم درامات التاريخ الساخرة، فتشرع البابوية و الكاثوليكية في هجوم لم تطلق فيه رصاصة واحدة ، و لم يتوقف إلا بعد إنهيار الشيوعية في كل دول أوروبا وإنهيار الإتحاد السوفيتي نفسه ؛ فقد أختير بابا بولندي للفاتيكان في أوائل ثمانينيات القرن الماضي وماهي إلا أشهر حتي أندلعت احتجاجات عمال (جدانسك البولندية) ضد النظام الشيوعي الحاكم و من قبل تولي منصب مستشار الأمن القومي الأمريكي “زبيغنيو بريزينسكي” أستاذ السياسة بولندي الأصل ،و الذي نصب المصيدة الإسلامية للسوفيات في أفغانستان ، و هنا يستحسن أن نتوقف برهة لتأمل العلاقة الفريدة بين بولندا والكاثوليكية ، إذ أن هذه العقيدة ومؤسساتها هي جوهر تاريخ حركة التحرر القومي البولندية بحكم وقوع البلاد بين قوتين متصارعتين غالبا و عدوانيتين دائما ، ولا يتصالحان أحيانا الا بعد تمزيق بولندا بينهما وهما روسيا الأرثوذكسية وبروسيا (ثم ألمانيا )البروتستانتية.

وهكذا عادت الكاثوليكية تحت رعاية وتخطيط البابا (جون بول الثاني) الذي لا يملك فرقاً عسكرية ولا حتي فصيلة مشاة و بتنفيذ خطط بريزنيسكي التي تركتها إدارة كارتر الأمريكية لخلفه رونالد ريجان لتشعل الثورة ضد فرق ستالين وخلفائه (بالخاء المنقوطة) وحلفائه (بالحاء دون نقطة ) في كل أوروبا الشرقية والوسطي والبلقان بل وفِي الداخل السوفيتي نفسه ، حتي ذهب كل ما بناه ستالين مع الريح .. في واحدة من أهم درامات التاريخ الحديث سخريةً ومفارقة و دلالةً علي خطل غرور القوة الخشنة في مواجهة القوة الناعمة الضاربة في عمق التاريخ.

طبعاً طبعاً طبعاً.. ، ليست الكاثوليكية وحدها هي ما فعلت ذلك، ولكن كان أيضاً هناك الشمولية و قولبة البشر و الجمود والقمع و التخلف التكنولوجي والتحدي الأوروأمريكي .. ولكن تبقي الدلالة الأصلية صحيحة.

* رئيس تحرير الأهرام الأسبق.

Categories:   أعمدة الرأى

Comments