Menu

في زمن الكورونا . . كيف نواجه الهسهس والملل ؟!

بقلم: طارق أحمد مصطفى

هاتان أكبر مشكلتان يعانيهما أبناء الطبقة المتوسطة المحبوسين فى بيوتهم حالياً بسبب الحجر الصحي وحظر التجول المفروض كإجراء احترازي بسبب تفشي فايرس كورونا: الأول هو الهسهس – بحسب التعبير الشعبي – أو هوس النظافة والتطهير، وهو الداء الذي من الواضح أنه تملك بشكل أكبر من السيدات، والثاني السأم والملل والذي تملك بشكل أكبر من الرجال بشكل عام وبصفة خاصة الشباب والمراهقين.
فيما يتعلق بهوس النظافة والتطهير المبالغ فيه بالمطهرات الكيميائية والكحول والكلور وغيرها، فهو راجع للنصائح التي انتشرت منذ بداية الأزمة من أهمية استخدام هذه المطهرات على الإيدي والأسطح لقتل الفايرس قبل وصوله إلى الفم والحلق، مما تسبب فى تكالب الناس على شراء كميات كبيرة من هذه المواد والاسراف فى استخدامها، حتى تنبه الكثير من الأطباء لضرورة تنبيه الناس أن الماء والصابون يكفي وأن لهذه المطهرات أضرار كثيرة منها السميّة والقابلية للاشتعال وقتلها للبكتيريا النافعة على الجلد، إلا أن “هسهس” التطهير بالمطهرات وبالكحول قد تمكن من الكثير من الناس، وأغلبهم من أصحاب النزعة الوسواسية فى الأساس، وجاءت هذه الأزمة لتوجد لهم مبرراً موضوعياً للتعبير عن نزعتهم الوسواسية دون أن يتعرضوا للنقد، وبعضهم ربما لن يستطيع العودة كما كان فيما بعد الأزمة، وسيتمكن منهم الوسواس القهري بشكل أكبر وأعمق، ربما يحتاجون معه للعلاج النفسي باستخدام العقاقير.
لذلك يحتاج هؤلاء إلى برنامج علاجي وإرشادي عاجل قبل أن تتفاقم أزمتهم. ولا شيئ يقضي على هذه الوسوسة مثل “الوعي”، الوعي بحجم الخطر وعدم التهويل أو التهوين من شأنه، وكذلك الوعي بانفعالاتنا الذي يمكنهم من عدم الاستغراق فى انفعالات الخوف والهلع بل التحكم فيها وتدريبهم على كيفية تفريغها بشكل آمن وحسن إدارتها، ومما يساعد على الوعي كذلك توافر المعلومات الصحيحة الشفافة من المصادر الموثوقة التي تزيد الإنسان ثقة وطمأنينة وهو دور فى غاية الأهمية لوسائل الإعلام التي عليها أن تقدم خطاباً شديد التوازن بين التحذير والطمأنة، وقبل ذلك وبعده يأتي “الإيمان” فكلما ارتقى إيمان الإنسان بالله وبأقداره وبحكمته يكون أكثر وعياَ وبصيرة وسكينة وتقبلاً واطمئناناً، وهذا دور رجال الدين والوعاظ والدعاة.
نأتي بعد ذلك لمشكلة الملل، التي بدأ الكثيرون يعانون منها، خاصة من لم يعتد على البقاء بالمنزل أوقات طويلة من الرجال والشباب، حتى من يمكث بالمنزل كثيراً ربما بدأ يشعر بالملل والضغط النفسي لشعوره أنه يمكث بالمنزل مجبراً لا مختاراً. وهنا من المهم أولاً أن نعرف ما هو الملل بشكل عام وكيف يتولد.
الملل هو شعور نفسي يأتي عندما يختلف الواقع عن التوقعات، وكلما كانت التوقعات عالية كلما كان الملل من الواقع أكبر، خاصة عندما يرزح الواقع بثقله على صدر الإنسان فيشعر أنه مقهور عليه غير قادر على تغييره، فيطلق الإنسان ميكانيزم الملل ليعبر به عن رفضه لهذا الواقع المفروض عليه.
يأتي الملل كذلك عندما يغيب الهدف عن أفعال الإنسان، فأغلب الناس اعتادوا أن يضعوا أهدافاً تدفعهم للحركة والاستمرار، ولا يعي عقل الإنسان الحياة إلا من خلال وجود هدف، والهدف ينتج عن شعور الإنسان بوجود نقص ما يتطلب أن يملأه بنفسه من خلال حركته ونشاطه وتفاعله، يمثل هذا النقص تحدياً للإنسان ومحركاً لشغفه بالحياة.
لذلك كما هو معروف تكثر حالات الانتحار فى المجتمعات التي تتسم بالرفاهية الشديدة، في حين يقل الانتحار عند الكادحين المكافحين من أجل لقمة العيش، حيث يشعر الإنسان مع الرفاهية الشديدة والحياة الناعمة السلسة بأن كل شيئ متاح ومتوفر لدرجة يعجز معها عن تحديد أهداف وتحديات لحياته، فيسلمه ذلك إلى الملل، ويسلمه الملل إلى الاكتئاب أو الاغتراب، ويسلمه ذلك إلى الانتحار. وكذلك نصادف فى حياتنا مواقف مشابهة مع من وصلوا لسن التقاعد، حيث يصيبهم الملل والاكتئاب حينما يجدون أنفسهم فجأة وقد فقدوا الأدوار الاجتماعية والعملية التي كانت تمثل بالنسبة لهم معنى الحياة وشغفها، رغم أنهم ربما كانوا فى الظاهر يكثرون الشكوى من عبئها، بينما هم فى الحقيقة كانوا يعيشون عليها.
والملل بشكل عام هو علامة على قلة النضج الروحي، فكلما نضج الإنسان روحياً كلما استغنى عن الاسباب الخارجية التى يحتاج لها ليكمل نقصه، وكلما استغنى عن الحركة المادية “الأفقية” لتحقيق أهداف ما، تعينه على الاستمرار، فالروح تتحرك وتصعد فى حركة رأسية من السماء وإليها، وتغوص فى باطن الإنسان للوصول إلى جوهره العميق. وقد أدرك متأملو الشرق ومتصوفة المسلمين تلك الحقيقة، فتجد أنهم لكي يصلوا إلى الارتقاء الروحي يسعون لممارسة ما يعتبره الآخرون مملاً، ويقاوموا قلق أرواحهم بالسكينة والصفاء والسلام.
فمن يمارس التأمل واليوجا يبقى على جلسته أو وضعيته أطول ما يستطيع في سكون تام وكلما استطاع البقاء لفترة أطول، وروض نفسه على الاستغراق فى عمق اللحظة الحالية قدر ما يستطيع، كلما وصل إلى مستوى أعمق من الحكمة والبصيرة الروحية. وكذلك المتصوفة فإنهم يدخلون فى خلواتهم ويستغرقون الليالى فى ترديد الأذكار بأعداد كبيرة بالآلاف وعشرات الآلاف من المرات ربما لذكر واحد أو اسم واحد من أسماء الله الحسنى، حتى يكشف لهم هذا الذكر الذي يكررونه عن معانيه وأسراره وأعماقه وبركاته، بينما هذا التكرار في الحقيقة إنما هو تجلية للروح ورفع لحساسيتها لاستقبال الأنوار الإلهية التى تغمر الكون كله ولا يخلو منها مكان أو زمان.
وبشكل أكثر بساطة، فإن القليل من الناس هم من تعاملوا مع بقاءهم فى المنازل خلال الحجر الصحي، كفرصة لا تعوض للتأمل الذاتي ومراجعة النفس والخروج من دوامة الأحداث والصراعات، وخلوة إجبارية للتواصل مع الخالق سبحانه وتعالى ومع ذات الإنسان الحقيقية التي توارت خلف ركام الأدوار الاجتماعية وأوهام الإيجو (أو الأنا والكبرياء). بينما أكثر الناس يدافعون الملل بالكلام والصراخ وممارسة القلق وبثه إلى الناس، فيجعلون من أنفسهم محطات استقبال وإرسال للطاقة السلبية. و في أحسن الأحوال تجدهم يدافعون هذا الملل بأنشطة تسلية وهمية توهم عقولهم أن هناك هدف ما لحركتهم، ولكن سرعان ما سيملون تلك الأنشطة كذلك ويبحثون من جديد عما يقاومون به الملل، ولو علموا أن الملل هو شأن من شؤون الروح لما بحثوا له عن علاج بعيداً عن الروح، والروح غذاءها المعرفة، المعرفة بالخالق سبحانه، المعرفة بالنفس، المعرفة بحقائق الحياة، وكلما استمر شغف الإنسان بالمعرفة فهو محصّن ضد الملل.

Categories:   أعمدة الرأى

Comments

  • Posted: 4 أبريل، 2020 23:15

    نبيل صبحي رياض

    موضوع شيق وممتع وانا لي راي في هذا الموضوع فنحن امام عدو ليس معك سلاح لمحاربته وايضا امام عدو عالمي عجزت امامه الدول العظمى التي تملك من العلم والعلماء ما جعلنا في وقت من الأوقات عندما نقارن انفسنا بهم نجد انه يفصلنا عنهم سنوات من النمو والتطور ولذلك اري ان الهسس الذي حدت منطقياً وان حتي الاستهتار ايضا منطقيا لاحساس بعض الناس بعدم الثقة في معالجة الحكومة للازمة ونظرة المقارنه الغير عادله والتي طبقا للمنطق تنحاز للدول العظمى وفيما يتعلق بالملل فهو نتيجة حتمية لعدة أسباب اننا نسال أسئله منطقية مثل الي متي سنظل محبوسين فلا يستطيع احد ان يجيبك نظرا لان الفيروس لم يوجد له علاج حتي الان والسؤال الاخر ما هو الهدف الذي ستجعل الناس به يتحركون بامل حتي تتجدد عزيمتهم ولا يصابون بالاحباط لذلك اري انه يجب ان يتم اختيار شخصية تعي النواحي النفسية ولها مصداقية شعبية تستخدم المزج بين المنطق والتدين فامام الموت الحقيقة تتكلم
    • Posted: 16 أبريل، 2020 07:27

      WEA

      شكراً على مداخلتك وتعليقك الكريم وجزاك الله خير