هل تتاجر المؤسسات الخيرية بمعاناة المصريين؟ .. تأملات على هامش إعلانات رمضان
بقلم: طارق أحمد مصطفى
“الفقر والجهل والمرض” عناوين كبير لمعاناة مركبة يعيشها المواطن المصري. ذلك المواطن الذي لم تتح له الدولة تعليماً حقيقياً يرفع عنه الجهل بمفهوم هذا العصر، فقاده الجهل للمعاناة الصحية، ولم تقدم له علاجاً شافياً كافياً يرفع عنه أوجاع المرض، فلم تمكنه أوجاعه من العمل اللائق المنتج الذي يكفيه مذلة الفقر وسؤال اللئيم، ثم أسلمه فقره مرة أخرى لنظام تعليمي لا يسمن ولا يغني من جهل، وحرمه ضعف تعليمه من فرص العمل التي تتطلب تعليم نوعي غير متاح له، فأسلمه ذلك إلى الفقر والمرض، وهكذا تستمر الحلقة المفرغة للبؤس التي يعيشها أعداد ليست بالقليلة من المصريين المهمشين فى الريف والحضر.
وعلى الجهة الأخرى، حاز بعض أصحاب الحظ السعيد على دخول تفيض كثيراً عن حاجتهم وحاجة أسرهم، وتنقّلوا بين مستويات متنوعة من الرفاهية، وتولد لدى بعض منهم قلق وخوف على هذه الرفاهية من الضياع، وبصفة خاصة الخوف من تهديد جيوش الفقراء والمهمشين الناقمين على هذا التفاوت الطبقى، والراغبين في نيل نصيبهم من هذه الرفاهية إما بالطرق الودية أو بالسرقة والعنف. في حين كان ضمير بعض هؤلاء المنعّمين يعكر عليهم استمتاعهم بهذه الرفاهية وهم يشاهدون أعداد البائسين تجول هنا وهناك فيقض المشهد مضاجعهم وينغص عليهم سعادتهم ويقلق حالة السلام النفسي التي يريدون الشعور بها. ورغم محاولة المرفهين علاج تلك الحالة بالانتقال للحياة في تجمعات سكنية راقية وآمنة تعزلهم عن الاحتكاك بالبائسين خلال حياتهم اليومية، ولكن الانعزال ودفن الرؤوس فى الرمال لم يكن ليقضي على هذا التهديد الذي يعكّر الصفو ويكدّر الضمير.
وعبر التاريخ كانت الطبقات المسيطرة من الأثرياء والإقطاعيين والنبلاء وأبناءهم يتعاملون مع هذه الحالة بعدة طرق، منها ما يتسم بالعنف والوحشية كإشعال الحروب والصراعات الدموية التي يُزج إليها بالبائسين، أو ابتكار القوانين التي يعجز البائسون عن استيعابها أو الالتزام بها فيقعون فى مخالفات تذهب بهم إلى السجون أو القتل باسم القانون، أو بناء القلاع والقصور ذات الأسوار العالية التى لا توصل إليهم صراخ الجائعين ويصعب عليهم اجتيازها. وأما الطيبون الودعاء منهم فابتكروا فكرة العطاء الخيري الذي يحاولون من خلاله جمع التبرعات من القادرين لتوفير التمويل اللازم لتقديم مستوى مقبول من الرعاية وسد الاحتياجات الأساسية للبائسين تضمن تهدئة خواطرهم وسكون ثورتهم، فضلاً عن إشعارهم دائماً بالامتنان والولاء لأصحاب العطاء أهل البر والإحسان.
وفي مصر تم تنظيم الجهود الأهلية فى مجال العطاء الخيري مبكراً تحت مسميات عديدة: كجمعيات المواساة، والمساعي المشكورة، وتحسين الصحة، فضلاً عن الخدمات التى تقدم من خلال مؤسسات دينية إسلامية ومسيحية طورت نفسها مع الوقت واكتسبت شهرة ومصداقية. ومنذ التسعينات بدأت أعداد المؤسسات الخيرية في الزيادة الملحوظة واتسع نشاطها فيما يشبه الظاهرة، منها ما يقدم المساعدات المالية وأغلبها يهتم بتوفير الرعاية الصحية – المعاناة الأكبر لجموع المصريين.
ومع زيادة الوعي بمنظومة حقوق الإنسان والاتجاه لتنظيم المجتمع المدني في مصر وتفعيله زادت المؤسسات المدنية التى لا تكتفي بتقديم المساعدات، ولكنها تهتم بالتنمية والتمكين الاقتصادي للمهمشين من خلال توفير التمويل للتعليم والتدريب ولإنشاء المشروعات متناهية الصغر، سواء من تبرعات القادرين أو من خلال المنح الدولية.
وقد كان انتشار هذه المؤسسات منذ التسعينات وتناميها من حيث العدد وحجم الأنشطة علامة مجتمعية إيجابية بلا شك، إلا أنها مثلت في المقابل إشارة إلى حجم الفراغ الهائل الذى لم تغطه الخدمات الحكومية، والفجوات الكبيرة التي لم تصل إليها يد الدولة في تقديم خدماتها للمواطنين كماً وكيفاً، وتُركت بالتالي للمبادرات الفردية وللدوافع الأخلاقية للقادرين. لذلك لا عجب أن تبارك الحكومات المتعاقبة هذه الظاهرة وتشجعها حفظاً لماء وجهها وتغطية لعجزها عن توفير التمويل الكافي لتغطية هذا الخدمات من موارد حقيقية، وفشلها فى الإدارة الكفء للمنظومة التي تكفل لجموع المواطنين حقوقهم الأساسية بعدالة وكرامة.
وحالياً لم يعد عمل تلك المؤسسات عمل متطوعين هواة من أصحاب المبادرات المجتمعية، ولكنه صار عملاً احترافياً يديره كفاءات متخصصة ذوو أجور عالية، وتكمن كفاءتهم فى قدرتهم على كتابة وإدارة مشروعات خيرية وتنموية جاذبة لاهتمام الممولين والمتبرعين. بل صارت الكثير من المؤسسات الخيرية الكبرى تستعين بكفاءات قادمة من عالم الأعمال (البيزنس)، يديرون تلك المنظومة بعقلية أقرب لعقلية إدارة المؤسسات الاقتصادية، ولديهم تحليلات وقياسات وأساليب فى الإدارة والتسويق لا تختلف كثيراً عن أساليب إدارة المشروعات الاستثمارية.
وقد كان انتشار هذه المؤسسات التي تدار بهذا الفكر الاحترافي عاملاً مهماً لخلق المزيد من فرص العمل اللائق للكثير من أصحاب المهن، كالأطباء والمهندسين والمعلمين والمدربين والمحامين وغيرها من المهن المساعدة والعمالة الإدارية والفنية. وكذلك أوجدت العديد من فرص الاستثمار، منها شركات مقاولات وإنشاءات عقارية، وتعبئة وتغليف مواد غذائية، وسيارات، وإعادة تدوير مخلفات، وصناعة أدوية، ومعامل أشعة وتحاليل طبية، فضلاً عن زيادة حجم الودائع والمعاملات البنكية، وتنشيط العديد من الصناعات المكملة والمغذية.
و يأتي على رأس فرص الاستثمار التي أوجدها المنحى الاحترافي فى إدارة هذه لمؤسسات، الاستثمار فى مجال الدعاية والإعلان والعلاقات العامة. فربما يغيب عن كثير ممن يتابعون إعلانات التبرع للمؤسسات الخيرية والعلاجية، أن هذه الحملات الإعلانية تديرها شركات دعاية وإعلان وعلاقات عامة متخصصة، تتوجه هذه الشركات إلى المؤسسات الخيرية أو العلاجية غير الهادفة للربح، وتتفق معهم على أن تتولى تصميم وإدارة حملة إعلانية مكثفة مع التركيز على المواسم الدينية كشهر رمضان وغيره، على أن يحصلوا على استثمارهم كنسبة من حجم التبرعات التي استطاعوا استقطابها لتلك المؤسسات.
أفاد هذا الأمر المؤسسات الخيرية والعلاجية كثيراً من خبرات واحترافية شركات الدعاية، وجذب لبعضهم قدر هائل من التمويل يقدر في بعض الأحيان بمئات الملايين لم يكن ليتحقق لهم لولا هذه الحملات الاحترافية، إلا أنه من ناحية أخرى قد بدّل الصورة الذهنية عن المؤسسات الخيرية غير الربحية من كونها مؤسسات مترفعة متسامية تعتمد على تبرعات أصحابها وأعضاءها ودوائر معارفهم في الأساس، ولا تستند إلا إلى المبادرات والنوازع الطبيعية الفطرية لدى أهل الخير، إلى كونها مؤسسات شرهة للأموال لا تتورع عن استجداء واستدرار المشاعر والابتزاز العاطفي بأساليب قد تكون غير راقية فى بعض الأحيان، كما أنها قد تستخدم لإعادة تدوير سمعة بعض الشخصيات العامة ذوي الخطايا الأخلاقية أو ذوي التوجهات والآجندات السياسية أو أصحاب المصالح الاقتصادية بإظهارهم فى حملاتها في صورة المحرضين على الخير، الداعمين له.
وفى الحقيقة، فإن دخول أساليب الدعاية والإعلان قد ساهم بقوة فى تحويل فلسفة تلك المؤسسات من كونها تجميع منظم للمبادرات المجتمعية وعطاءات أهل الخير من أجل توجيهها التوجيه الأمثل إلى كونها أوعية لجذب فوائض الأموال وتوجيهها لشراء السلع والخدمات الطبية وغير الطبية لصالح غير القادرين، فتتحقق بذلك المنفعة المتبادلة بأن يحصل الفقراء على احتياجاتهم من جهة، وكذلك تدور العجلة الاقتصادية الهائلة التي أحدثتها هذه المؤسسات من جهة أخرى، في صورة من صور المعادلات الرأسمالية التي ترى أن المحافظة على مستوى معقول من التفاوت في المستوى الاقتصادي هو أحد محفزات دوران عجلة الاقتصاد، فلولا وجود حاجات غير مشبعة عند البعض وفوائض غير مستغلة عند البعض ومؤسسات تقوم بدور الوسيط بينهما لما نشأت كل هذه المنظومة.
ولعله من المفارقات العجيبة أنه في الوقت الذي أشار القرآن الكريم إلى أولوية العطاء للمتعففين الذين لا يسألون الناس إلحافا، فإن اتساع منظومة العمل الخيري الاحترافي قد أوجد شكلاً جديداً من محترفي الفقر، المتكلين على الإعانات والمساعدات، المتاجرين أحياناً بأمراضهم لدى منظومة البحث العلمي الطبي المغذي لمافيا الدواء والعلاج، المستسلمين غالباً لحالة الخمول والعجز والعشوائية ليسترزقوا من أطماع السياسيين و ضمائر الفاسدين، بينما يضيع فى الوسط القليل من الأعمال الخيرية المتجردة، التي تسعى لسد حاجة المحتاج دون المتاجرة به أو اقتسام حقه فى العطاء والصدقات مع شركات الإعلان و(المحترفين) من العاملين عليها، وكذلك يبهت فى الوسط القليل من الجهود التنموية الحقيقية، التي تسعى لتمكين الناس من حقوقهم وإكسابهم القدرات التي تساعدهم على المضي قدماً في الحياة معتمدين على أنفسهم من أجل الخروج من الحلقة المفرغة من “الفقر والجهل والمرض”.
وأخيراً، الكلمات السابقة لا تهدف للتحريض ضد مؤسسات خيرية وعلاجية يستفيد آلاف بل ربما ملايين المحتاجين من خدماتها، وتسد فجوة كبيرة في الخدمات المقدمة للشعب المصري، ولا تسعى للتشكيك فى نوايا وذمم القائمين عليها، ولكنها مجرد تأملات لعلها تساعد من يتعاطى مع هذا المشهد المتصدر للشاشات على الفهم والتفسير لذلك الشعور بالغرابة الذي يتلبس الكثيرين عند مشاهدتهم لهذه الحملات الإعلانية التليفزيونية الكثيفة، ولعلها كذلك تجعل من يقرأ أقل رغبة في الاستسهال عند توجيه زكاته وصدقته، وأكثر حرصاً على التمييز بين الغث والسمين، وأكثر بذلاً للجهد في تحري مواطن العطاء.
Categories: أعمدة الرأى
Posted: 3 يونيو، 2020 19:14
احمد عبد السلام
Posted: 11 يوليو، 2020 20:28
WEA