Menu

الغلاء له حكمة إلهية

الغلاء له حكمة إلهية

بقلم: طارق أحمد مصطفى

الأصل هو أن الله تعالى قد وضع أرزاقه ونعمه لعباده ونثرها في الطبيعة بلا مقابل، وضع سبحانه في الكون قدراً وفيراً من كل ما يتعلق بالاحتياجات الأساسية للإنسان من هواء وماء وطعام، ولم يكن على الإنسان إلا أن يلتقطها ويُظهر الحمد و الإمتنان لله تعالى عليها. ولكن نتيجة حركة الإنسان وتفاعله مع الآخرين، ظهر مفهوم التبادل وظهرت النقود، ومُنحت الأشياء المجانية قيمة اقتصادية تجعلها مادة صالحة للتبادل الاقتصادي.

ونتيجة لنزعة الإنسان للاستئثار والامتلاك والاستحواذ والتميز والسيطرة، ونزعته للإكثار والتنويع في الاستهلاك حتى ولو على حساب غيره، نتيحة لذلك نشأت الصراعات، ونشأ مع كل ذلك علم الاقتصاد، وهو العلم الذي رسّخ مبدأ ندرة الموارد بدلاً من مبدأ الوفرة الذي هو أصل الحياة، نشأ هذا العلم من أجل ترشيد استخدام هذه الموارد “النادرة” وتنميتها وحسن إدارة هذه الصراعات. وكلما استمرت حركة الإنسان كلما اتسعت رقعة الأشياء الخاضعة للتبادل الاقتصادي فى مقابل ضيق مساحة الأشياء المجانية. وكلما استحوذ الإنسان على المزيد من مصادر الموارد الطبيعية واستأثر بها، كلما زاد الصراع وتأكد مفهوم الندرة على حساب مفهوم الوفرة .

وجاءت الرأسمالية كتجسيد لجشع الإنسان ونزعته لإدراج كل النِعم والأرزاق – المتاحة مجاناً وبوفرة – داخل النظام الاقتصادي الرأسمالي وجعلها مادة للتبادل، وإخراج كل النِعم عن طبيعتها الفطرية البسيطة وإعمال عقل الإنسان وصنعته فيها لمنحها المزيد من القدرة على الإشباع، ولأن الإنسان لا يشبع _ولا تملأ عينه إلا التراب_ فلم تعد ترضي شهوته أياً من السلع المتاحة ولم تعد تكفي النعم البسيطة المتاحة لسد احتياجاته، لذلك استمر يطالب الاقتصاد الرأسمالي بمزيد من الحاجات، وظل هذا الاقتصاد يغريه بالمزيد من المنتجات والخيارات ليُشبع نهمه المتزايد.

والرأسمالية – كي تدافع عن نفسها – قاومت بشراسة كل نزعة إجتماعية تحاول أن تجعل العدالة هي أساس توزيع الموارد، وفي المقابل رسخت لمبدأ الكفاءة العمياء كأساس للاستحواذ والاستئثار، أي أن من يملك الكفاءة يمتلك كل شئ ومن لا يملكها فلا حق له في المطالبة أو مزاحمة الأكفاء، بل ربما لا يكاد يكون له حق في الحياة، إلا بالقدر الذي يسمح له به الأكفاء. والكفاءة التي نعنيها ليست بالضرورة الكفاءة الفنية أو المهارة العملية أو المعرفة العلمية، بل يدخل فيها امتلاك أدوات القوة الغاشمة، وامتلاك قاعدة كبيرة من الولاءات لتيسيير الوصول للموارد بكافة الطرق الأخلاقية وغير الأخلاقية.
من أجل ذلك صار هاجس إنسان هذا الزمان هو السعي لتحصيل الكفاءة بكل أشكالها كي يصير جديراً بالعيش الكريم وفق معايير المجتمع الرأسمالي، وصارت قبلته تتوجه نحو الاعتماد على الآليات الاقتصادية وكذلك الآليات السياسية والقانونية المكملة لها.
لم يعد الإنسان المعاصر يتعامل مع مصادر الطبيعة الوفيرة مباشرة ولا يرى لها قيمة ولا يقدّر ما بها من نعمة، بل يرى أنه هو من يمنحها القيمة من خلال عمليات التشغيل والتصنيع وإعادة التأهيل التي يجريها عليها بجهده البشري، ومن ثم لم يعد يرى الرزق فى تعاطيه المباشر مع الموارد البسيطة المتاحة بالحياة، ولا يرى الرزق في شيء سوى المال الذي يستطيع أن يشتري به منتجات المجتمع الرأسمالي التي تقدم له المزيد من الإشباع.

ولأنه يعلم أن الحصول على المال عادةً يكون إما مقابل مخاطرة الاستثمار أو جهد العمل، صار يتوجه بالحمد والامتنان الحقيقي من أعماقه ليس إلى الله سبحانه واهب النعم، بل يتوجه به إلى الآلية الاقتصادية ومن يديرها أو إلى ذكاءه وقوته وكفاءته التي جعلته يكسب المال. صار الإنسان على الحقيقة يعبد الدرهم والدينار من دون الله؛ أو يعبد الحاكم أو المدير الذي يمنحه المال أو يعبد نفسه كحال قارون وهو يقول (إنما أوتيته على علم عندي).

وشاءت حكمة الله أن يرد الإنسان إليه بأن يتركه لجشعه وشهواته ونزعته للاستحواذ والاستئثار لتورده المهالك. فها هي الآليات الاقتصادية الرأسمالية المجردة – المصحوبة بنزعة استهلاكية شرهة لا تقف عند حد ولا يرضيها شيء – ها هي تقود النظام الاقتصادي بشكل شبه حتمي للركود وتسوق حركة التجارة والتبادل إلى الكساد وتأخذ بالأسعار إلى ارتفاع مضطرد.

فنزعة الاستئثار لدى أصحاب الكفاءة دفعتهم في تلك الظروف الاقتصادية للاستحواذ على النقود المتاحة للتبادل وسحب السيولة المالية من أيدي الناس واحتكارها والبخل بها، مما أوصل النظام الاقتصادي إلى نقطة حرجة لا يستطيع بعدها التقدم والاستمرار، ويضطر من ثم جموع الناس للعودة لأنماط استهلاك قديمة – هي في ذاتها كافية لعيش كريم بحياة فانية في الأساس – ولكنها لم تعد تحقق الإشباع الذي اعتاد عليه إنسان ركن إلى الدنيا وأخلد إلى الأرض.

ولكن مع الغلاء سترتفع أسعار السلع التي كانت رخيصة ولم يكن يعتد بها، فيعود الناس للتكلب عليها والتمسك بها واستشعار قميتها الاقتصادية بعد أن كانوا يهدرونها ويستخفون بها تطلعاً إلى السلع الأغلى والأكثر إشباعاً، ربما وقتها يفيق البعض ويتذكرون الله واهب النعم، ويستشعرون ما حباهم به من أرزاق كانت أمامهم رخيصة أو مجانية، ويتندمون على وقت كانوا يهدرون فيه مواردهم بدون إعتبار لقيمتها ويلوثون بيئتهم بالإفراط في الاستهلاك ، لعلّهم يعودون بعد انتهاء الأزمة أكثر رشداً وأكثر امتناناً.

Categories:   أعمدة الرأى, كلمة و مقال

Comments